خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مراجعة في الحروب الصليبية

عرضت مؤخرًا قناة «بي بي سي» الرابعة (القناة المتخصصة في الوثائقيات) سلسلة وثائقية عن الحروب الصليبية، قدمها بصورة موضوعية المؤرخ البريطاني الدكتور توماس أسبرج، بعد طوافه على جبهات الموضوع ومدنه ومتاحفه، واجتماعه مع شتى الخبراء والمؤرخين الآخرين. هذا موضوع اطلع أكثرنا على خطوطه الرئيسية، ولنا أفكارنا فيه، بيد أن شيئين لفتا نظري في هذه السلسلة:
الشيء الأول هو افتقارنا لأي وثائق من الجانب العربي الإسلامي، لا سيما عندما نقارنه بالثروة الكبيرة من الوثائق اللاتينية والإفرنجية. من الوثائق التي طرحها الكاتب سجل عن نفقات الحملة الصليبية الثانية.. تفرّجنا فيها على تفاصيل البضائع المحملة على السفن؛ كم رطلاً من اللحم، ومن الجبن، ومن الخبز والدقيق، وعلف الخيل.. ونحو ذلك، وكم كلفت أثمانها جملة وتفصيلاً بندًا ببند.. ناهيك بالتقارير عن سير المعارك، وعدد القتلى، وأحوال المقاتلين والمرضى. وكلها في صحف وسجلات ضخمة من الرق مزينة بتصاوير ورسوم بالألوان الزاهية. تصفحها المخرج في شتى المتاحف والمخازن الأوروبية، وفرّجنا عليها.
ذهب الدكتور أسبرج للقاهرة يفتش عن أي وثائق عربية مماثلة.. زار مكتبة الأزهر وقابل الدكتور ضيف الأزهري، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة الأزهر. لم يستطع أن يطلعه على أي وثائق تاريخية، غير مجموعة من القصائد عن القدس والجهاد جرى طبعها فيما بعد على ورق صقيل، من منطلق «الشعر ديوان العرب»! بيد أن الباحث عثر في مكتبة المسجد الأقصى على وثيقة مخطوطة تتعلق بخِطبة الملك العادل، شقيق السلطان صلاح الدين، لشقيقة الملك ريتشارد قلب الأسد؛ الخطوبة التي لم تثمر شيئًا. رفضت الأميرة الزواج برجل مسلم كردي.
راعني أن أجد أن الباحث مخرج السلسلة لم يستطع أن يجد أي وثيقة عربية أصيلة عن كل تلك الحروب التي استغرقت مائتي سنة، غير ما تعلق منها بخِطبة وزواج! هذا كل ما يعنينا!
الشيء الثاني الذي لفت نظري في السلسلة هو أن سائر الانتصارات التي حققها الصليبيون جرت بسبب تفرق كلمة المقاتلين المسلمين. هذا ما اعترفت به وثيقة لاتينية كتبها أحد الرهبان عن معركة أنطاكية، وأشار فيها إلى أن المسلمين كانوا ثلاثة أضعاف الصليبيين، ولكن الصليبيين انتصروا عليهم لتفرق شملهم وتنازع فئاتهم وشكوكهم في أطماع قائدهم الكردي من مدينة الموصل. حسبوا أنه كان ينوي تنصيب نفسه ملكًا على أنطاكية! فخذلوه وخذلوا معه عموم المعسكر الإسلامي. كيف استولى الصليبيون على أنطاكية؟ نعم بنجاحهم في رشوة أحد مواطنيها من الأقليات، ففتح أبواب السور لهم! هكذا سقطت بغداد أيضًا بنحو مشابه تقريبًا.
يروي الباحث أن جيوش المسلمين كانت تتكون من أكراد وأتراك وعرب، وسنة وشيعة، في تشاحن وتنازع مستمر.. وكلها مقدمة لما حصل للمسلمين في الأندلس بعد قرنين من الزمن؛ بل قولوا معي، كما تجري الحال في وضعنا الراهن، وكما حصل لفلسطين في نكبة 1948. كان الصليبيون أيضًا يتكونون من فئات وطوائف، إنجليز وإفرنج ولاتين، ولكنهم احترموا الواجب.. مصلحة الكل فوق مصلحة الفئة.