محمد بن حسين الدوسري
TT

تكرار التنزيل لوقائع التقتيل

مصادفةً كنتُ استجمع العالم بقبضة واحدة في آلة صغيرة من صنع بني الأصفر وتقنيات بني الأحمر، فأذهب متنقلاً بروحي وعقلي - ويُخيل لي أن جسدي كذلك - بين فرنسا ولندن ودبي ونيويورك والدوحة والقاهرة، وذلك من خلال ثوان معدودة، فسرى إلى مسامعي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، فيخرج إليهم جلب من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله عز وجل، ويصبح ثلث لا يفتنون أبداً، فيبلغون القسطنطينية فيفتحون، فبينما هم يقسمون غنائمهم وقد علقوا سلاحهم بالزيتون، إذ صاح الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم.(رواه مسلم في صحيحه في كتاب الفتن). وهو أصل قويم في فكر التطرف الإرهابي المسمى داعش، فمنه يؤسس لوجوده، وعلى ضوئه يوحي إلى مريديه بأن النصر قادم لا محالة، فيصبح أولئك الاتباع في عالم آخر يُحيط به فكر عيبي يقيني لا يرى إلا تلك الظواهر من النصوص يُحيطها بفهمه البسيط الذي لا يفرق بين اسم كان وخبرها، ولا بين المقيد والعام، ولا بين صحيح الاخبار من ضعيفها، ولا بين مضمون سياق النص القرآني وظاهره، ولا بين كيفية الجمع بين النصوص وترجيح بعضها على بعض، ولا بين معنى قواعد الفقه ومقاصده، ولا بين معنى القول بقيام الصفات الاختيارية بالذات الإلهية ونفيها وما يترتب على ذلك. فأنى لذلك الغر الصغير أن يفهم كيفية تنزيل النصوص الواردة بأخبار سوف تقع في زمن من الأزمنة!! فهذه النصوص الغيبية التي أتعبت كثيراً من العقول والجماعات على مر العصور سواءً كانت تلك النصوص التي تتعلق بالمهدي وظهوره وما ترتب عليها من أحداث دامية خلال عصور الاسلام الأولى مثل حادثة النفس الزكية وأمر خروجه حتى حادثة الحرم عام 1979م-1400هـ، وما ترتب على تلك الأحداث من قتل وتدمير للنفوس البريئة وإضلال للناس البسطاء بدعوتهم لأتباع تلك الدعوات غير الصحيحة والتي ضلت في فهمها وتنزيلها لنصوص الشرع ولم تُراعي بأن تلك النصوص الغيبية ليس لأحد كائنا من كان أن يدعي تنزيلها بظن أو شك أو غموض أو توهمات أو منامات تعتري المريدين فيجتمعون على أمرٍ أو تصور يُحمل على أن المراد من النصوص الشرعية ما قررته تلك التوهمات وما قررته تلك الشكوك والظنون، فإن الأصل في تنزيل النصوص الغيبية الواردة بوقائع تقع في زمن من الأزمان على واقعة ما أو شخص أو أشخاص ما أن يتم رد ونفي ذلك التنزيل (لأن الأصل في تنزيل أحاديث الفتن على الأزمان والأشخاص الرد)، وذلك سداً لذرائع فتن القتل والتدمير؛ كما حصل في وقائع ظهور المهدي. وهذا أصل عظيم يتوجب أن يتم التأسيس له وتدريسه لأبنائنا حتى لا تتسرب إلى عقولهم نبتة ذلك التنزيل المعوج كي يجعل من أبنائنا قنابل موقوتة، وقد تتبعت أقوال أهل العلم في تنزيل تلك الوقائع؛ فمنهم من يقبل ذلك التنزيل بضوابط، إلا أن تلك الضوابط لم تكن منضبطة علمياً ولا متفقة مع قواعد الفقه وأصوله، ونشرها والقول بها يُعزز من موقف فرق وجماعات التطرف الفكري الجهادي التكفيري، ولا شك أن تنزيل تلك الوقائع الواردة في النصوص الشرعية الصحيحة لا يتم إلا بيقين مجمع عليه من قبل المسلمين عامة؛ وذلك حتى لا تقع الأمة في أخطاء الماضي. لذا وجب الإحجام عن تنزيل تلك النصوص الشرعية والالتفات إلى أولويات العلم والتعلم التي ترفع من قيمة المسلم كإنسان، وعدم التسرع والاستعجال في تنزيل تلك النصوص فـ(الرافق لا يكاد يُسْبَق، كما أن العَجِل لا يكاد يَلْحَق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويَحْمد قبل أن يُجَرِّب، ويَذُم بعد ما يحمد، يعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعَجِل تصحبه الندامة وتعتزله السلامة، وكانت العرب تُكَنِّي العجلة أم الندامات) (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، محمد بن حبان البستي أبو حاتم، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ص (216)، دار الكتب العلمية، لبنان، بيروت، 1397هـ/1977م).