إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

يا حلو شجابك علينا

للطبيعة البشرية طرائقها في الترويح عن النفس حين تشتد الأزمات على الأوادم فلا يعودون يلمحون بصيصًا من نور في آخر النفق. وبين الناس من يحتمي بإيمانه وبأن لن يصيبه إلا ما كتب الله له. ومنهم من يلجأ إلى الأمثال الشعبية: «تبات نار تصبح رماد». أو إلى الشعر: «اشتدي أزمة تنفرجي ما بعد العُسر سوى الفَرَج». وهناك من يصبّر نفسه بما يحفظ من الأغاني الباعثة على التفاؤل، الطاردة للهموم، كتلك التي تأسّى بها قارئ المقام العراقي محمد القبنجي: «لا تشغل بالك بيها... ربّك هو يسويها».
لكن عبقرية التأقلم الإنساني مع الظروف تتجلى في أولئك الذين يجدون سلواهم في السخرية. يؤلفون الطرائف ويصطادون اللطائف ويحولون المصيبة إلى مادة للضحك. وقد نبغ المصريون في هذا الفن وصاروا سادة العرب في التنكيت الذي يأتي عفو الخاطر. وسمعنا من يفسر خفة الدم المصرية بأنها الفطرة حين تدافع عن نفسها في مواجهة القهر. وفي السنوات الأخيرة دخل العراقيون على الخط وأطلقوا أطنانًا من النكات، يؤلفونها ويتداولونها في جلساتهم ويتبادلونها بالهاتف والنت. فإذا كانت النكتة ردًا شعبيًا عفويًا ضد القهر والضيم، فهذا يعني أن سيل القهر بلغ الزبى وحالنا ليست فوق النخل. إن نَفَقَنا طويل و«حسبتنا صعبة». والمثل الفصيح يقول: «شرّ البليّة ما يضحك». والعاميّ: «دخّنْ عليها تنجَلِ». والعراقيّ: «أيام المزبّن قِضَنْ... تِقضنْ يا أيام اللّف»؛ أي أن الأيام الصعبة قد ولّت وسينقضي زمن السيجارة الرخيصة التي يلفّ بها الفقير تبغه. ما أضيق العيش لولا...
يُروى عن المطرب الريفي حضيري أبو عزيز أنه زار الكويت، أواسط الستينات الماضية، لإحياء حفلات غنائية. وهناك رتبوا له مقابلة في التلفزيون. إن للأغنية العراقية وقعها الخاص على الأذن الكويتية رغم أنف داحس والغبراء. لكن مقدم البرنامج عاتب المطرب الضيف لأنه غنّى للزعيم عبد الكريم قاسم. وكان قاسم قد طالب بضم الكويت قبل 30 سنة من غزو صدام حسين. وفي تلك الفترة، بث التلفزيون العراقي أغنية لأحلام وهبي مطلعها: «من زاخو لحدّ الكويت... هذي فد دار وفد بيت»؛ أي أننا بيت واحد، من أقصى حدودنا الشمالية وحتى الكويت. وقد سعى معارضو قاسم إلى تحوير كلمات الأغنية لتصبح: «من زاخو لحدّ الكويت التمَّن ينباع بالباكيت». وهي سخرية من القوانين الاشتراكية التي تحدد حصص بيع التمن، أي الرز، بكميات ضئيلة، في بلد اعتاد أهله على شراء الرز «بالكونيّة»؛ أي الشوال الذي يزن مائة كيلوغرام. وتبقى تلك حكاية عتيقة سبقت عصر البطاقة التموينية و«تمن الحصّة».
وعودة إلى حضيري، فقد وجد نفسه محرجًا إزاء عتب المذيع الكويتي عليه لأنه غنى للزعيم، فأجاب يدفع عنه «التهمة» قائلا إنه غنى له: «قل لي يا حلو شجابك علينا... أمّك جابتك واحنا ابتلينا». ويمكن لهذه الحكاية أن تكون مداعبة بريئة للمطرب الريفي المحبوب صاحب «عمّي يا بيّاع الورد». وهي نتاج مخيلة عراقية عفوية كانت مهادنة في الهزل. ثم جاءت الحروب وتعددت أسباب الموت، فإذا بها تتجلى وتنشئ مصانع لإنتاج النكات التي تصدّ الغمّ وتحصّن النفوس من الانهيار.
لا يعرف العراقيون اليوم، على وجه التحديد، مصدر «البلوة» التي حلّت بهم. هل كان «أبو ناجي» أي الإنجليز؟ قاسم والشيوعيون؟ صدام والبعثيون؟ خميني وإيران؟ بوش الكبير ثم الصغير؟ بلير؟ بول بريمر؟ الجلبي؟ المالكي؟ لقد دبكت أقدام كثيرة على السطح وزعزعته، بهذا القدر أو ذاك، كلّ بحسب مقاسه ووطأة خطوته. وصار البحث عن جواب محاولة سوريالية، خصوصًا بعد نزول «داعش» إلى الساحة. كأن البلاء العراقي لعنة لا فكاك منها ولا ترياق يُبطل مفعولها. وهناك، اليوم، المئات ممن ولدتهم أمهاتهم وابتلي العراقيون بهم.