راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

حرب «المنطقة الآمنة»!

لا معنى لقرقعة الاتهامات والاتهامات المضادة بعد إسقاط قاذفة «سوخوي 24» بصاروخ أطلقته مقاتلة «إف 16» تركية، فمثل هذه البيانات سبق أن قرأناها في 22 يونيو (حزيران) من عام 2012 عندما أُسقطت مقاتلة تركية في منطقة «كسب» على الحدود التركية، بصاروخ أطلقته مقاتلة سورية، وقيل يومها إن الخبراء الروس هم الذين أداروا العملية.
إسقاط الطائرة الروسية يوم الثلاثاء الماضي ليس ردة رجل على ما جرى في «كسب»، ولا هو مقدمة لنشوب حرب بين تركيا وروسيا يمكن أن ينزلق إليها حلف الأطلسي، إنها في وضوح بداية مواجهة عنيفة حول «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا على الحدود التركية، حيث تتقاطع مصالح وتتضارب حسابات، ليس أقلها في النهاية إفشال حسابات فلاديمير بوتين في دخول الرمال السورية المتحركة دعمًا لبشار الأسد.
عشية إسقاط القاذفة الروسية كانت أنقرة تستضيف قمة «العشرين» التي حضرها بوتين، وصافح رجب طيب إردوغان بحرارة ملحوظة أمام المنصة، لكن رياحًا باردة ومقلقة لموسكو لم تلبث أن هبّت من كواليس المحادثات الجانبية في تلك القمة، حيث كشفت مصادر تركية رسمية أن «المنطقة الآمنة» الممتدة من جرابلس إلى أعزاز ومارع ستُفرَض في خلال أسبوع، وأن هذا الأمر يأتي في ظل تأييد فرنسي حماسي بعد العمليات الإجرامية التي تعرضت لها باريس، وأن الأميركيين الذين لطالما عارضوا هذا في السابق باتوا أكثر اقتناعًا بالأمر.
تركيا تقول إن هذه المنطقة ستشكل ملجأ آمنًا للسوريين داخل بلادهم تحميهم من نيران الصراع الدائر ومن ضربات النظام، وتخفف من حدة تدفق اللاجئين إلى تركيا واستطرادًا إلى أوروبا. والمصادر التركية الرسمية تقول إن أنقرة لن تقوم بعمليات برية لإيجاد هذه المنطقة، بل بدعم جوي ومدفعي، من أجل مساعدة المعارضة على السيطرة على تلك المنطقة، وإن الأميركيين يمكن أن يتولوا التفاهم مع الروس على وقف غاراتهم المتصاعدة على تلك المنطقة.
ما جرى في تلك المنطقة بعد انتهاء قمة «العشرين» كان عكس الحسابات التركية، فقد كثّف الروس من عمليات القصف التي تستهدف جبل التركمان، الذي له أهمية استراتيجية داخل تلك المنطقة، والذي يقال إن الفرنسيين ضمّوه إلى سوريا تعويضًا عن سلخ لواء الإسكندرون وضمّه إلى تركيا، في حين راح الجيش السوري يتقدم للسيطرة على قمة، تدعى «الزاهية»، في منطقة باير بوجاق وتقع في الريف الشمالي للاذقية، وهو ما أدى إلى حملة نزوح واسعة للتركمان إلى داخل تركيا سببت حرجًا كبيرًا للحكومة.
ارتفاع حدة العمليات العسكرية في تلك المنطقة عكس في نظر المراقبين تضارب الحسابات؛ ففي حين تقول موسكو إنها تكثّف القصف على خلفية كلام بوتين بأنه يريد «حماية روسيا من الإرهابيين، وإن استهداف ريفي اللاذقية ودمشق سببه أن الإرهابيين الشيشان والأوزبك يقاتلون هناك»، ويستميت النظام السوري لاسترجاع السيطرة على تلك المنطقة التي تساعده عمليًا على حماية اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين، وتفتح الطريق إلى حلب، وكل هذا يتلاقى مع ضرورات أمن القواعد الروسية في تلك المناطق.
تسريبات تركيا عن قرب إقامة المنطقة الآمنة في شمال سوريا تضرب - إذا صح الأمر عمليًا وميدانيًا - كل حسابات الروس والنظام السوري والإيرانيين الذين يتمسكون ببقاء الأسد أكثر من الروس، وقد سمع فلاديمير بوتين خلال زيارته إلى طهران ولقائه مع المرشد علي خامنئي، كلامًا لامس العتب حيال بعض التصريحات الروسية التي سبق أن أوحت بعد مؤتمر «فيينا2» بأن موسكو ليست متمسكة بالأسد.
في الحسابات التركية، وربما الأميركية المضمرة، إقامة المنطقة الآمنة تمكن بالضرورة من تأمين سيطرة التركمان والجيش السوري الحر على منطقة حيوية تتحول؛ أولاً إلى أرض ملائمة لإقامة معسكرات للاجئين، بحيث يتوقف تدفقهم إلى تركيا، ومن ثم تسرّبهم إلى أوروبا التي بدأت تنوء بهم، وثانيًا إلى قاعدة انطلاق للجيش السوري الحر والتركمان، ويمكن إذا ساعد الأميركيون في فرض حظر جوي عليها أن يعاد التوازن العسكري الذي يكاد التدخل الروسي يكسره لمصلحة الأسد.
على خلفية كل هذا يمكن أن نفهم الأبعاد الميدانية للقرارات العسكرية التي اتخذتها روسيا بعد إسقاط قاذفة «سوخوي»، ذلك أن إرسال الطراد «موسكوفا» المجهز بمضادات حديثة، ثم تخصيص طائرات مطاردة، لتقوم بمواكبة طلعات القاذفات الروسية التي تلقي قذائفها على المعارضة السورية والتي تركز الآن تحديدًا على جبل التركمان، ثم إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغر أن موسكو ستقوم بنشر أنظمة دفاع «إس 400» الأكثر تطورًا والمضادة للطيران وأنظمة الصواريخ في قاعدة «حميميم» في اللاذقية؛ إنما يأتي ليس ردًا على إسقاط تركيا المقاتلة الروسية، بل استباقًا لاحتمال قيام منطقة حظر جوي يشارك فيها الأميركيون والأطلسيون.
ربما كان من المضحك فعلاً قول سيرغي لافروف إن «روسيا لن تعلن الحرب على تركيا»، التي قال عنها رجب طيب إردوغان إنه «ليس لديها النية للتوتير مع روسيا، الدولة الجارة والصديقة، وإن الدول الكبرى لا تضحي بعلاقاتها من أجل حوادث تقنية»، فنحن في الواقع لسنا في زمن الحروب بين الكبار، لأنها تخاض عبر الوكلاء الإقليميين.
ليس من الواضح كيف سيترجم فلاديمير بوتين قوله إن «العملية طعنة في الظهر، وسيكون لها عواقب وخيمة»، أو بالأحرى كيف سيبتلع هذا التهديد، خصوصًا إذا تذكّرنا أنه حدد أربعة أشهر لإنهاء حربه ضد الإرهابيين في سوريا، وها هو ذا بعد شهرين يحارب المعارضة السورية دعمًا للأسد شخصيًا الذي تعارض دول العالم بقاءه باستثناء إيران، ويقف على حافة هاوية الحرب مع تركيا والحلف!
الحديث الروسي عن أن العملية لن تمر بلا عواقب اقتصادية وتجارية، مضحك أيضًا، رغم قيمة التبادلات بين البلدين التي تصل إلى 40 مليار دولار، وذلك أن أي عقوبات ستكون بالنسبة إلى موسكو مثل لحس القط المبرد، لأن الاقتصاد الروسي المتعثر سيدفع أثمانًا مؤلمة تتجاوز ما يمكن أن يدفعه الاقتصاد التركي!
وسط هذه المعمعة وقرقعة السياسات والقذائف، لا أتردد في طرح السؤال: أيها السادة.. هل هناك من يتذكر «داعش»، والحرب على «داعش» والإرهابيين؟ وهل هناك من يتذكر روزنامة «فيينا2» التي أصدر لافروف نعيًا لها؟ وهل هناك من لم يرَ باراك أوباما يستلقي ضاحكًا في البيت الأبيض، وأبو بكر البغدادي ينام مرتاحًا في إحدى المغارات؟