مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

أحلام العصافير

قرأت عن أعظم تصفية حدثت في التاريخ، وهي تصفية الحكومة الأميركية لجزء كبير من أسلحتها بعد الحرب العالمية الأولى.
والحكاية وما فيها، أنه في خريف سنة 1918، بلغ جيش الولايات المتحدة ثلاثة ملايين مقاتل، ولكن العتاد والذخائر الحربية التي أمرت الحكومة الأميركية بصنعها كانت لجيش تعداده خمسة ملايين، معدّ لهجوم عظيم كان ينتظر شنه في ربيع سنة 1919 ولكن الحرب انتهت فجأة، حين كان سيل العتاد والذخائر يتدفق على خطوط القتال في أوروبا.
كما أن أكثر من نصف العتاد المتخلف سيكون معدات حربية، معظمها من الطائرات وربما بلغ ثمنها عشرين مليارًا من الدولارات في ذلك الوقت، وقليل من الطائرات الحربية ما يصلح للطيران المدني، فالطائرات المعروفة بالمقاتلات لا تصلح أبدًا للأعمال المدنية.
ويقول ضابط برتبة (كولونيل): إن أعظم مصيبة يمكن أن تحل بالجيش في زمن السلم هي أن تكون مضطرًا إلى الاحتفاظ بآلاف الطائرات والدبابات والمعدات.
على أن إصدار قرار بالتخلص من فائض العتاد الحربي ليس سهلاً كما قد يظن البعض، فالحكومة في هذه الحالة هي أشبه ما تكون بالزوجة الحريصة، التي تميل إلى اختزان بعض المواد للحاجة في المستقبل - على مبدأ المثل العامي (دس حق الحمار لحاجته)، ومع الوقت يكتشف أنها عديمة الفائدة، وأصبحت (كالشوكة في الحلق).
وقد اضطرت قيادة الجيش الأميركي بعد الحرب أن تحرق أكثر من ألف طائرة رؤي أنها لا تساوي نفقات إعادتها إلى أميركا، فثار الرأي العام واضطر الجيش إلى إعادة ما بقي منها، فأكلها الصدأ وهي جاثمة في العراء، فوق تكاليف إعادتها.
هذه القراءة ذهبت بخيالي رأسًا إلى منطقة الشرق الأوسط ودولها التعيسة، متسائلاً عن عدد الصفقات من الأسلحة تلو الصفقات، والمستودعات التي تمتلئ ثم تفرغ، والصيانات والحراسات، والمصاريف التي لا أول لها ولا آخر.
وتخيلوا معي مجرد تخيل لو أن تلك الدول حاولت أن تتصالح مع نفسها ومع جيرانها، ووفرت (أموال قارون)، التي تنتهي إما كوسائل تدمير، أو (كخردة) تذهب صلاحيتها وقد تباع كـ(سكراب)، وكل المتحاربين في النهاية خاسرون، المنتصر منهم والمهزوم.
لو أن تلك الأموال الطائلة ذهبت للبناء والإبداع والارتقاء الحضاري بالشعوب، كيف يكون الحال؟!
من حسن حظ ألمانيا واليابان أنهما هزمتا في الحرب العالمية الثانية، وفرض عليهما ألا يكون لديهما أية جيوش مسلحة، فانزاح من على كاهليهما عبء كبير كان سوف يكلفهما الكثير، فتحول الملايين من الجنود كلهم إلى عمال، وما هي إلا ثلاثة عقود حتى تصدرتا دول العالم في النمو العمراني والاقتصادي والعلمي والاجتماعي.
مشكلتي فقط هي: أحلام العصافير، ومن كان منكم لديه بندقية (شوزن)، فليسلطها على أحلامي، لكي يريحني منها.