رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

«داعش» الانشقاق.. و«داعش» الاختراق.. و«داعش» الخراب!

ما شمت أحد بفرنسا وما أصابها كما شمت بشار الأسد وحسن نصر الله، فقد تميزت المقاربة الفرنسية للأوضاع في سوريا بالمساواة أو الاقتران بين «داعش» ونظام الأسد. فإذا كان ضروريًا التخلص من «داعش» فلا بد من تخليص الشعب السوري من بشار الأسد. وحجة المسؤولين الفرنسيين على ذلك أن التطرف الأسدي هو الذي أدّى إلى التطرف الداعشي. والحجة الأخرى أنه لا يصحُّ ولا يجوز وضع سوريا الشعب والدولة بين خيارين أو إرغامين أحلاهما مُرّ: الأسد و«داعش». فنظام الأسد قتل ثلاثمائة ألف من شعبه، وهجَّر ثلاثة عشر مليونًا، و«داعش» قتل عشرات الأُلوف، وهجَّر ثلاثة ملايين وأكثر في سوريا والعراق. الأسد قال تعليقًا على أحداث باريس إنّ هذا جزاء من «يتحالف» مع الإرهاب (!)، وحسن نصر الله قال إن الرئيس الفرنسي الذي أراد مساعدة اللبنانيين والسوريين بزعمه هو عاجزٌ الآن عن مغادرة باريس لحضور مؤتمر العشرين بأنطاليا التركية!
إنّ ما لم يقله الفرنسيون صراحةً هو أنّ «داعش» من نتاجات الأسد ونظامه. وهو لا يزال مخترقًا من ذلك النظام. بدليل أنّ معظم قتال «داعش» في سوريا منذ عام 2013 هو ضد معارضي الأسد الآخرين، وأنّ معظم المناطق التي يتمركز فيها التنظيم كانت بأيدي الثوار، وليس بأيدي النظام، وأنه حتى في الفترة الأخيرة بعد التدخل الروسي، فإنّ النظام السوري يتبادل المناطق مع «داعش» كرًا وفرًا، بما في ذلك مناطق استولى عليها «داعش» ثم انسحب منها لصالح قوات النظام المتهالكة. وعندما أعلن «داعش» عن مسؤوليته عن التفجير بضاحية بيروت، قال حسن نصر الله إنه سيزيد من العمليات ضد «داعش». فمنذ عام 2013 أيضًا لا يقاتل حزب الله والميليشيات المتأيرنة الأخرى إلاّ ضد خصوم النظام السوري من المسلَّحين، وليس من بينهم «داعش» في معظم الجبهات. والسبب الثالث أو الرابع، الذي يجعل من «داعش» حليفًا لا يُقدَّرُ بثمن للأسد والإيرانيين والروس، أنه ما من عمليةٍ كبرى قام بها «داعش» (وآخرها عملية باريس) إلاّ أفاد منها بالدرجة الأولى النظام السوري وحلفاؤه الإيرانيون. فكيف كان يمكن لقضية الشعب السوري أن تُنسى أو تتأخر في مؤتمر «فيينا – 2» ولصالح نظام الأسد، لولا قيام «داعش» بالهجوم في باريس؟ وهكذا فقد توجهت الأنظار كلها لمكافحة الإرهاب وليس لتحرير الشعب السوري من قبضة الأسد، فسارع لافروف وكيري وإيران لالتقاط الفرصة السانحة والتركيز على إرهاب «داعش»، متناسين الإرهاب الآخر الذي يشاركون فيه جميعًا منذ سنوات إلى جانب الأسد ونظامه!
إنّ هذه الوقائع جميعًا هي المعنى الحقيقي للاختراق بكل وجوهه وأشكاله: اختراق النظام السوري وإيران وروسيا والولايات المتحدة وآخرين لـ«داعش»، واختراق «داعش» لمجتمعاتنا ودولنا، وقيامها بالتخريب فيها وفي العالم، مع عدم إضرارها بالأسد وحلفائه في غالب الأحيان، وإضرارها بنا نحن العرب في كل الأحيان!
ولنذهب من الاختراق إلى الانشقاق. وأنا أعني بالانشقاق الخروج من الدين وعلى الدين وباسم الدين تزييفًا له وعدوانًا عليه. لقد كان شأن الراديكاليات والإحيائيات شنّ الحملات على التغريب وعلى التقليد الديني العاجز والمتحالف مع الأنظمة المتغربة. وقد أوصل ذلك عندما ظهرت «الجهاديات» إلى تكفير العالم، ثم تكفير الدولة فالمجتمعات. ومن هنا جاء استحلال الدم بممارسة الجهاد في الدواخل الإسلامية، وضد العالم. إنما بعد عمليات الهدم هذه، بدأ التفكير على أنقاض الخراب بالدولة الميمونة أو «دولة الخلافة». ولأنّ الدولة تجلب ذكرياتٍ تاريخية، فقد تغير موقف «داعش» وأمثالها من التراث والتقليد، فتبنَّوا الخلافة الراشدة من جهة، وتخيروا من الفقه الموروث الآراء الشاذة لتبرير عدواناتهم على الناس باسمها. وهكذا حلَّ الانتقاء القاتل محلَّ الإنكار القاتل. بيد أن الذي أكمل الانشقاق وغيَّر الدين هو القول إن الدولة التي يقيمها الداعشيون والقاعديون هي ركنٌ من أركان الدين! فلم تعد الدولة مكلفةً من الناس بإدارة الشأن العام، بل صارت مكلفةً من الدواعش بتطبيق شريعتهم المزعومة، المؤلَّفة من شواذ الآراء والتصرفات في هذا الزمن أو ذاك من أزمنة المسلمين الماضية! وبذلك فإنّ «داعش» ابتدع دينًا جديدًا قوامه الإخضاع والاستعباد والقتل باسم الدين الجديد الذي لم يعرفه العرب ولا المسلمون من قبل. لقد تجاهل أعراف الناس وإجماعاتهم وتجربتهم التاريخية العريقة.
لماذا تمكن «داعش» من القيام بالانشقاق في الدين، والانصراف لتخريب الدول والمجتمعات؟ هو لم يتمكن بعد، لأنه لم يسيطر على دولةٍ كبرى أو وُسطى، وإنما احتلّ أراضي سيخرج منها بالقوة، كما دخلها بالقوة. إنما على الرغم من ذلك، لماذا حقق هذه النجاحات النسبية؟ لقد استطاع ذلك في الدين، لأن مؤسساتنا الدينية أضعفتها الحداثة كما أضعفت التقليد، فحلّت محلَّ المؤسسات التاريخية الأصوليات الراديكالية، بداعية مكافحة الاستعمار والتدخل الخارجي والتغريب. وقد قال رسول الله صلوات الله وسلامُهُ عليه: «إنّ المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى». فالتطرف باسم الدين في مواجهة الظواهر الحديثة ضرب إمكانيات التفهم والتفاهم وإدراك المصالح لصالح إحيائياتٍ قاتلة باسم الدين. ونجحت الراديكاليات في مواجهة الدول، لأن تلك الدول استولى عليها العسكريون والأمنيون، فانتهكوا الحُرُمات، وكرّهوا الناس بكل شيء حتى بأوطانهم. ولننظر إلى موجات الهجرة الطوعية بعد القتل والتهجير القسري في عدة بلدان. لقد هجم هؤلاء الراديكاليون على الناس الذين أنهكتهم الأنظمة الطغيانية والفاشلة. وهكذا اكتمل الانشقاق الخارج على فقه الدين وفقه العيش. ففقه الدين يقول إن السلطة أو النظام السياسي ليس ركنًا من أركان الدين، بل الدول هي جهاتٌ لإدارة الشأن العام قائمة على المصلحيات والتدبيريات. وخرجوا على فقه العيش بإنكار التعدد والسطوة باسم التوحد والتوحيد والإخضاع والاستعباد، بحيث وصل الأمر ببعض الفئات الشعبية التي خرب دينها وخرب عيشُها إلى الترحُّم على الأنظمة الطغيانية. وقد سهَّل كلُّ ذلك في الأساس الغزو الشيوعي لأفغانستان ثم الغزو الأميركي لأفغانستان أيضًا والعراق. والخراب الذي أحدثه الأميركيون استولى عليه الإيرانيون وأمعنوا كما أمعن السابقون في القتل والتدمير. وهكذا فإنّ الداعشيات هي مواريث كل ذلك الخراب والتخريب في الدين والعيش والدول والمجتمعات.
ستصلح أمور الدول والسلطات في النهاية رغمًا عن الأسد والإيرانيين و«داعش»، لأن البشر محتاجون جميعًا إلى السلطة والإدارة للمصالح. لكنّ الانفجار والخراب الذي حصل في الدين، ومع العالم، هو صَدْعٌ لا يمكن رأْبُهُ إلاّ في آمادٍ متطاولة، وهذا هو الهولُ الذي يتعذر الخروج من مستنقعاته وتداعياته، وتلك هي داهيةُ الدواهي قبل الأسد والإيرانيين والروس والأميركيين وبعدهم!