محمد بن حسين الدوسري
TT

مُغالبة النفس على التسامح وأثر الفكر الصحوي في زرع الكراهية

إن الخلط بين الأفعال والتصرفات التي تقع في المجتمعات المختلفة في واقعنا المعاصر وعدم التمييز بينها وعزلها عن ثقافة مجتمعاتها وإسقاطها على فهوم العامة من الناس لسطحيات التدين وإسقاط ما قصدته الصحوة بفكرها خلال ثلاثة عقود من محاصرة أفراد المجتمع بفكرها ومقاصدها اللاعقلانية الهلامية، يوضحُ بشكل عنيف وصادم أن ما تم بثه في مجتمعاتنا العربية والسعودية على وجه الخصوص كان له الأثر العميق لدى البعض في ترسيخ صور الكراهية والعنف والحقد والحسد وتمني الدمار للآخر. ولقد تم استئصال فكر التسامح والتعاطف الانساني مع بني البشر الأبرياء الذين لا علاقة لهم لا بالسياسات ولا بالفكر سواءً الفلسفي العلماني أو الديني الأصولي المسيحي أو اليهودي لدى الآخر.
فما أن جاءت الأخبار بأن اعمالاً إرهابية قد حدثت في العاصمة الفرنسية باريس حتى وجدنا ردود أفعال في محيط مجتمعاتنا، التي لا تأتي عليها وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي بالتشريح والتفصيل، تتسم بالفرح والسرور والتشفي لما حدث ويحدث في البلاد غير المسلمة؛ وذلك بحجة ما يحدث في سوريا والعراق من غير إحاطة بحقائق الأمور ودواخلها السياسية ولا ما تفعله السياسة التي ينتمي إليها هؤلاء الفرحون المسرورون، علماً أن أصابع الجماعات الإرهابية و{الجهادية} واضحة وضوح الشمس وراء هذه الأفعال، سواءً كانت هذه الجماعات تنظيم {داعش} أو تنظيم القاعدة أو من المستقلين المناصرين للإسلام مأخوذين بحماس وتطهر نوراني يظنون أنه يقين، يُحتم عليهم قتل أنفسهم وتقطيعها إلى أشلاء نصرةً لدين الله.
هكذا تمت تعبئتهم على مدى عقود طويلة من قبل الفكر الصحوي بطرق كثيرة تسربت إلى أعماق المريدين وترسخت في الذهنية والعقلية لأجيال من الشباب والشابات بعضهم أصبحوا شيوخاً ولما يتغيروا قيدَ أنملة مما تسرب إلى عقولهم وأصبحت تلك القناعات قواعد للدين يُنابذ به الآخرون سواءً مما يُشاركونهم في الديانة أم ممن يختلفون معهم فيها، وبعضهم صغار السن لما يبلغوا العقد الثاني أو الثالث من عمره، أخذوا ونهلوا من تلك الأفكار الصحوية إما شفاهةً مباشرة وإما بطريق غير مباشر وهو أقوى من المشافهة؛ وهي طريق التقنيات الحديثة.
وتلك الأفكار الصحوية بثقافتها وتاريخها ومنعرجاتها ظلت مترسخة في مجتمعاتنا مُهابة لم يتجرأ أحد على إيصال الشكوك والظنون في يقيناتها التي تشربها هؤلاء الأغرار في جميع أراضي المسلمين وخصوصاً في بلادنا.
وتلك الذهنية والعقلية التي رسخت الفكر الصحوي لأمور التدين سواءً في تكوين الدولة الحديثة المعاصرة وعلاقاتها الخارجية أم كان ذلك في التنظيمات والقوانين الحديثة التي تُنظم المجتمعات وترتقي بها إلى التطور والتقدم، أم كان ذلك في التعامل مع الآخر المخالف لدينها أم مع الآخر المخالف لاعتقادها أم المخالف لها سلوكياً وأخلاقياً جعلت المجتمع ضعيف الفكر أمام تلك الأفكار الإرهابية {الجهادية}، فأصبح من أغرارنا من يجرؤ أن يفجر نفسه في بيوت الله عز وجل وهذه مرحلة متقدمة في الإيغال في تهافت الفكر واضمحلال لعقل أولئك الأغرار؛ وذلك بقبولهم أن يصبحوا أدوات تفجير مادية لتقتيل الأبرياء وتشويه صورة الدين النقية.
وكذلك فإن الفكر الصحوي الذي سيطر لعقود طويلة جعل أفراد المجتمع محتقنين ومنغلقين أمام التنوير الفكري، مما جعل حتى كبار السن الذين لا يجيدون القراءة ولا يحسنون الكتابة وليس لديهم أدنى مبادئ المعارف أن يكونوا فرحين مستبشرين بتلك التفجيرات والقتل للأبرياء في العاصمة الفرنسية.
إنها حالة من الأحوال التي ترسخت بفعل قوة التكفير الصحوية الدينية التي مازالت آثارها باقية حتى يومنا هذا وإن كانت متخفية وراء لبوس المعاملة بالمثل ضد الكفار الأعداء ومناصرة الضعفاء ودفع الظلم عنهم. إنها صورة سوريالية حزينة نجدها عند كل حدث مؤلم يسحق كثيراً من بني جلدتنا في الإنسانية. وما لم نشرع في البدء بتفكيك وتشريح ما كانت تلك الصحوة المشؤومة تفعله في شبابنا وشيوخنا وبناتنا، فإننا سوف نبقى لحقبة من الزمن نرى ونتألم أمام تلك اللوحة في متحفنا اللوفري بيد أنه ليس فرنسياً.