بعد افتتاح ناجح تميّـز باختصار الخطب وبالتأكيد على أن أهمية المناسبة تتأتى بتنظيمها الإداري الفعال، تتوالى أيام مهرجان القاهرة الـ37 حتى الحادي والعشرين من هذا الشهر فاردة أمام النظارة 16 فيلما في المسابقة ونحو 200 فيلم خارجها في 8 أقسام رئيسية وتظاهرات مصاحبة.
الشعور العام هنا هو أن المهرجان هو إعلان حالة مناهضة لما تمر به مصر من مخاضات وأزمات كان آخرها سقوط الطائرة المدنية الروسية وما تبع ذلك من نتائج. عناوين الصحف المحلية أجمعت على أن المهرجان إنما يعقد الآن ليقول إن «مصر بخير» وأنها «بلد الأمان». في ذلك نصيب من الصحة التلقائية، فهو في انعقاده يجاهر بأن حضور الفن والثقافة والسينما في مثل هذا الظرف تحديدًا يجسد التحدي الأمثل للأوضاع السائدة. هذا كان حال نيويورك بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 عندما انطلق مهرجان ترايبيكا السينمائي ليكون ردًّا على الفعل الإرهابي الكبير الذي وقع وتأكيدًا على مكانة مدينة نيويورك وطقوسها الثقافية والفنية.
لكن الجانب غير المصيب هو ذلك الذي يحاول، كما في كل مرّة وفي كل عام، التأكيد على أن مهرجان القاهرة بات حدثًا سينمائيًا عالميًا منتظرًا. حسب ترداد محطة تلفزيونية «المهرجان الدولي الذي أصبح حديث العالم كله»، وكل ذلك ليس صحيحًا وبل يناوئ الغاية المنشودة بالوصول إلى الصرح الدولي فعلاً.
* ظروف خارجية
ما مهرجان القاهرة عليه الآن، كذلك جل مهرجانات العالم العربي، هو استعادته لزمام مبادرة أفلت من بين يديه في السنوات الأخيرة وحتى العام الماضي. كان قد تحوّل إلى تنفيذ وظيفي مع هالات أكبر من حجمه منذ مطلع القرن الحالي وازداد الأمر سوءًا مع نهاية العقد الأول منه لكنه الآن يقف على قدمين ثابتتين أكثر ويتحرك بمنهجية مسؤولة على نحو أفضل. وهذا كاف لأن يُثنى عليه لأن هذا ليس إنجازًا ضئيل الشأن على الإطلاق.
لكن العالمية هي أمر آخر تفرضها ظروف خارجية أكثر مما تطلقها ظروف محلية. الأماني، مهما ارتفعت، لا تهم إذا ما كانت السوق العربية ذاتها غير مؤهلة لتتفاعل إيجابًا مع كل هذا الجهد. لا يوجد طموح لدى المنتجين والمخرجين العالميين لبيع أفلامهم، من خلال مهرجان القاهرة، أو من خلال أي مهرجان عربي آخر، إلى موزّعين عرب. في الجانب الآخر، الكثير من الأفلام المشتركة شهدت عروضها العالمية في بقاع أخرى حول العالم. وإلى أن يحين الوقت الذي يفضل فيه صانعو الأفلام، وبعدد ملحوظ وكبير، أن المهرجان العربي مكان لعرضه السينمائي الدولي الأول، فإن الوضع باق على حاله باستثناء التقدّم الذي يستطيع المهرجان فرضه إداريًا وتنظيميًا والثقة المتدرجة به التي تتأتى من خلال ووراء نجاحاته الفنية والإعلامية.
يزيد الطين بلّة، بالنسبة لكافة المهرجانات العربية، أن الجوائز الممنوحة فيها لا تشكل ثقلاً يستند إليه صانعو الأفلام في صياغة إقبال العروض المحلية لأعمالهم أو لأجل المساعدة في ترويجها على نحو فعلي. فقط جوائز المهرجانات الثلاث الأولى (برلين وكان وفينيسيا) هي التي تستحوذ على التغطية الإعلامية الكبيرة، أما سان سابستيان (إسبانيا) وكارلوڤي ڤاري ولوكارنو وصندانس وموسكو ومونتريال، وهي مهرجانات عريقة بلا ريب، فإن حالات الترقب والاهتمام بفائزيها يُـطالع في المجلات المتخصصة (مثل «ذ هوليوود ريبورتر» و«فاراياتي») لكنها لا تتسلل إلى معظم الأوساط الأخرى. تجدها في غوغل لكن لا يعيل عليها المطالعون الكثير من الأهمية.
* مشاركات فرنسية
المشكلة ليست مصرية إذن، لكن هذا لا يعني أن مهرجان القاهرة عليه أن يسعى لتأكيد وجوده في رحى المهرجانات الدولية. هو يستطيع البحث عما هو لافت. التعاون أكثر مع أصحاب قرار دوليين (مؤسسات وشركات) وتغطيتها طوال العام بأخبار الدورة الأخيرة وما هو منتظر من الدورة المقبلة.
الجهد الذي يبذله عادة مهرجان روتردام أو مهرجان كارلوڤي ڤاري أو أي مهرجان آخر، عليه أن يتضاعف، لأن تلك أوروبية تكمن في نطاق أمني مستتب وظروف لا تدعو للقلق، بينما وضع مهرجان القاهرة في هذا الظرف هو حمل ثقيل آخر عليه مواجهته.
مسابقة هذا العام تحتوي على فيلمين مصريين هما «الليلة الكبيرة»، لسامح عبد العزيز مع عمرو عبد الجليل وسمية الخشاب ومحمد لطفي في البطولة، الذي يواكب هنا حكاية تقع في يوم واحد هو يوم مولد ديني ليرصد شخصياته قبل وخلال الحفلة المنتظرة.
الفيلم الثاني هو «من ضهر راجل» لكريم السبكي، وفيه عودة حميدة لمحمود حميدة في دور البطولة مع آسر ياسين وياسمين رئيس وشرف رمزي. ويحكي قصّة ملاكم شاب يحاول الهرب من صورة أبيه الجاثمة بكل زلاتها، وعندما يخفق يتحول إلى نسخة منه.
عربيًا هو فيلم واحد يتقدم باسم الجزائر - فرنسا وهو فيلم مرزاق علواش «مدام كوراج» الذي سبق وأن شوهد في مهرجان فينيسيا.
وفرنسا موجودة، مباشرة أو بالمشاركة مع دول أخرى، في أكثر من موقع فهي في الفيلم الروماني «الكنز» لكورنيليو بورومباو والفيلم الأرجنتيني «بولينا» لساتياغو ميتري والفيلم الإيطالي «البحر المتوسط» ليوناس كاربينانو، وعلى نحو مباشر، كون معظم التمويل جاء من شركة فرنسية، في فيلم «أنا جندي» للوران لارفييه.
معظم الأفلام الأجنبية المتسابقة افتتحت في مهرجانات سابقة وهذا يشمل الفيلم الإستوني «1944» (برلين) والفيلم الدنماركي «بين ذراعيك» (غوتبيرغ، بيكينغ) والأفغاني «مينا تسير» (برلين) والفيلم البوسني «حياتنا اليومية» (سراييفو) كما جميع الأفلام الأخرى باستثناء الفيلم الكوري «مادونا» لشين سو - وون. لكن كلها جديدة ومطلوبة بالنسبة لجمهور محب للسينما ينتظر المهرجان من عام لعام للتزود بما لا يستطيع مشاهدته في أي مكان آخر ولا بأي وسيلة بديلة.
فيلم «1944» (مشترك بين إستونيا وفنلندا) هو أحد تلك الأفلام التي تمثل بلدانها في سباق الأوسكار. لكن علاوة على ذلك، شهد إقبالاً ضخمًا في عروضه الإستونية كونه فيلما حربيًا يتناول انقسام الجنود الإستونيين إلى فريقين واحد يحارب في الصف الروسي والآخر في الصف النازي.
* فيلمان جزائريان
فيلم مرزاق علواش كان أثار لغطًا كبيرًا بين صانعه والحكومة الجزائرية عندما قرر، عبر الفرع الفرنسي للشركة الممولة («بايا فيلمز») الاشتراك به في مهرجان حيفا الأخير. الوضع نفسه كان نشأ عندما وافق المخرج الجزائري لياس سالم على إشراك فيلمه الأخير «الوهراني» في المهرجان الإسرائيلي لكنه امتنع عن ذلك في اللحظة الأخيرة بسبب معارضة الحكومة الجزائرية، ممثلة بوزارة الثقافة، هذه الخطوة.
والفيلمان الجزائريان بينهما تحالف الموضوع: «مدام كوراج» لعلواش هو نقد للواقع الجزائري اليوم عبر حكاية بطلها شاب يعيش على ما يسرقه من مجوهرات وحقائب نسائية ويدمن المخدرات ويؤم كوخ والدته التي ترعى عمل ابنتها (شقيقته) كعاهرة بينما تستمع (بإيمان) إلى خطب الفتاوى على الشاشة الصغيرة. عالم عمر (عدلان جميل) مقفل وبلا أمل حتى من بعد أن يلتقي، من دون قصد، بالفتاة سلمى (لاميا بزواوي). كان لطش عقدها وهي في طريقها إلى المدرسة. حين خروجها يرصدها ثم يتقدم منها ويعيد العقد إليها. من تلك اللحظة، حياته ازدادت اضطرابًا. هناك عاطفة لا يفهمها نحوها، وبالنسبة إليها، هو شاب «لا يشكل خطرًا» كما تقول لشقيقها.
يوصم مرزاق علواش المجتمع بأسره (من فوق متمثلاً بالشقيق والنظام الذي يستند إليه) ومن تحت (الطبقة الشعبية ذاتها) بالشلل والعجز الذي يشبه تمامًا عجز عمر عن أي فعل لإنقاذ نفسه وللتواصل مع الفتاة التي يحب أو مع المحيط الذي ينتمي إليه.
أما «الوهراني» فقد سعى لنقد الأمس واليوم معًا، فهو دراما مؤلّـفة من مواقف تصاحب شخصيات خاضت حرب الاستقلال ثم استوت في مناصب إدارية منقلبة على المبادئ ومستخدمة نفوذها لمصالحها الخاصّـة. العيّنات التي يوفرها المخرج في هذا الفيلم لا يمكن دحضها بالمطلق. هناك حميد (خالد بن عيسى) الذي استثمر وصوله السياسي لمحاربة سواه ممن سبق وشاركوه النضال. يستمر الفيلم لساعتين من عرض الحال والانتقال منه إلى النتائج. معظم الوارد قد يحدث رد فعل غاضبة لدى البعض، لكنه في الواقع ليس سوى تنفيذ لسيناريو تقليدي الكتابة يبني نقده على مشاهد معيّنة تفي بالحاجة وعلى الكثير من الحوار المتبادل. والمخرج، فرنسي من أصل جزائري، يحرص على استخدام لغة شوارعية لإيصال رسالته ما يمنح حضوره لدى الجمهور قدرًا من الواقعية. رغم كل ذلك، وبسبب ركاكة عمله - لدرجة التفاصيل أحيانًا - لا يمكن إلا اختزاله إلى فعل سينمائي مؤقت خال من المعالجة الفنية التي تستطيع رفع شؤونه المتداولة إلى ما بعد الإثارة العامة.
المهرجان قوي بحضوره رغم ظروف الداخل والخارج
«الشرق الأوسط» في مهرجان القاهرة السينمائي ـ 2
المهرجان قوي بحضوره رغم ظروف الداخل والخارج
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة