رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

النهوض السعودي لإنقاذ الشام

ما بقي أمرٌ له علاقةٌ بالجاري في سوريا وعليها إلا وجرت الكتابة فيه، وانعقدت البرامج الفضائية من أجله في الأسابيع الأخيرة. وكان الدافع المباشر لذلك التدخل العسكري الروسي فيما بدا صدامًا مباشرًا مع الولايات المتحدة، ليس في سوريا فقط؛ بل وفي العراق أيضًا. ثم آل الأمر بعد الوهلة الأولى إلى أن يعود الحديث عن الصراع السعودي - الإيراني، وليس على سوريا فحسب؛ بل وعلى مجمل العلاقات والأمن في سائر أنحاء المشرق العربي والخليج.
لقد اعتادت المنطقة بعد عام 2001 على أن يتقاطع فيها، إذا صحَّ التعبير، صراعان: الصراع الأميركي مع العنف باسم الإسلام، والصراع الإيراني - الإسرائيلي ظاهرًا على «النووي»، وبالفعل على الأمن ومناطق النفوذ. والذي ينبغي قوله إنّ العقد الأخير هذا شهد تقدمًا أمنيًا واستراتيجيًا لصالح إيران؛ إنما ليس على حساب إسرائيل، بل على حساب الأرض والسيادة العربية في العراق وسوريا ولبنان. وما أحسسْنا نحن في لبنان بذلك فقط؛ بل أحسَّ به العرب في العراق، وأحسُّوا به عام 2007 عندما استولت حماس على قطاع غزة الذي جَلَتْ عنه إسرائيل، وبدعمٍ من إيران (حزب الله)، والنظام السوري. إنّ هذه الظواهر بالذات هي التي سماها الراحل سعود الفيصل في مؤتمر القمة بِسِرت عام 2010: الفراغ أو الخواء الاستراتيجي العربي.
ولذلك، ورغم العلاقات التحالفية بين نظام الأسد وإيران؛ فإنّ كثرةً من المسؤولين العرب ما كانت شديدة الحماس للحراك في سوريا، حتى في مرحلته المدنية لليقين بأنّ النظام السوري، إذا عجز عن مواجهة الثورة؛ فإنه لن يخضع لشروط الإصلاح، بل سيلجأ لإيران، التي ستعيد سيرتها في العراق، فتشترك مع الأسد في تخريب سوريا، وزيادة الوضع الهش في المشرق العربي. ولا حاجة لتكرار القَصص حول ما حدث في سوريا خلال خمس سنوات؛ فقد انتهى الأمر منذ عام 2013 إلى ظهور واستعلاء راديكاليتين قاتلتين للشعب السوري فيها، وهما ميليشيا نصر الله والميليشيات الشيعية الأخرى، وميليشيات «القاعدة» و«داعش».
وما شكَّ مسؤولٌ عربي في خطورة ما يجري في سوريا والعراق ولبنان.. لكنّ الرؤية العربية حول ما ينبغي فعله ما كانت واحدةً ولا متقاربة، ولا تزال. لن يقول لكَ مسؤولٌ رسمي من الجهات التي لا تزال داعمةً للأسد إنه ما كان ممكنًا لنا القيام بشيء، بل هم يقولون لنا وللدوليين: هذا هو الخراب، ولا بد من مكافحة الإرهاب، والبدائل للأسد غير متوافرة، ولا يجوز تدمير الدولة السورية كما جرى تدمير الدولة العراقية بعد إسقاط صدّام، وانظروا ماذا يحدث وسيحدث في ليبيا بعد القذافي!
لا نعرف بالضبط لماذا أجّلت إيران «النووي»، إنما الراجح أنهم اعتقدوا أنهم بذلك يرتاحون من الحصار، ويحتفظون بمناطق النفوذ. لكنّ العرب لا يستطيعون التعزّي عن سوريا ولبنان والعراق بشيء. وقد اعتاد السعوديون على الدبلوماسية السرية والصبورة، لكنهم ما اعتادوا التخلّي عن ملفٍ استراتيجي مثل الملف السوري، فالمشرق العربي جناحٌ للخليج بشرًا وتاريخًا وأمنًا. والاختلال العراقي ينبغي ألا يمتدَّ إلى سوريا، رغم أنّ «داعش» يحاول أن يفعل ذلك. ذلك أنّ هذا الاختلال ما أوصَل إيران إلى الحدود السعودية البرية فقط؛ بل إنه فتح المجال لظهور انقساماتٍ طائفيةٍ بالداخل، وإلى تغذية العداوة بين العرب والأكراد في العراق وسوريا. ولذلك، ومنذ عام 2012، صارت القناعة السعودية أنه لا بد من التغيير في سوريا، واستعادة الجغرافيا السورية والدولة السورية واللبنانية من أيدي إيران وميليشياتها. وقد ساعدت السعودية ودولٌ عربية أخرى الثوار السوريين، وقاتلت مع التحالف الدولي «داعش»، وكان المقصود بذلك ليس المسائل الأمنية والتحالفية وحسْب؛ بل والحضور والفعالية عندما يؤون أوانُ المفاوضات على مصائر سوريا، ومصائر الأسد. وقد أتت اللحظة الملائمة، ولذلك أعلن السعوديون عن رأيهم بالاتجاهين: لا مستقبل للأسد في سوريا، ولا مستقبل لإيران فيها أيضًا.
إنّ رِهان المملكة العربية السعودية في سوريا غير رهان إيران؛ فإيران اعتادت منذ أفغانستان والعراق على أن يقوم غيرها بالحرب، ويزيل الخصوم، ثم تنتظر حتى يخرج الأجنبي الغازي لتحلَّ محلَّه بأهون السبل. والحقُّ أنها حاولت في سوريا (بخلاف العراق) أن تقوم بالعملية بمفردها بواسطة الحرس الثوري، والميليشيات الشيعية، لكنها عندما عجزت، رضيت بأن تبادر روسيا في سوريا مثلما بادرت أميركا من قبل في العراق.. فالروسي أجنبي أيضًا وسيخرج بعد تثبيت الأسد، ونحن باقون!
إنّ رِهان السعودية هو على سوريا البلد العربي، والذي يُهجَّر شعبه ويُقتل منذ أربع سنوات. ولذلك فالمهمة ذات ثلاث شُعَب: إيقاف النار على الشعب السوري، وتغيير النظام والحفاظ على الدولة، وإعادة الإعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحَضَري. وهذه مهماتٌ عسيرةٌ جدًا، تحتاج بالفعل إلى التضامن والتسانُد، وهي أمورٌ غير متوافرة؛ بل لنقل إنها متوافرةٌ في اليمن بشكلٍ مقبول، وغير متوافرة بالحدّ الأدنى في سوريا والعراق، وعن قريب لن تكون متوافرةً في لبنان أيضًا!
هل تشكّل روسيا طريقًا للحلّ السياسي ولو في الخطوتين الأوليين: وقف النار، والتفاوض على السلطة الانتقالية كاملة الصلاحيات؟ روسيا مستعجلة، لأنها لا تستطيع الاستمرار بهذه النفقات الباهظة. لكنها من جهةٍ أخرى لن تختلف مع إيران، ولن تهمل ما تعتبره مصالح استراتيجيةً لها في سوريا بعد الأسد. ولذا، وبالمعرفة العميقة للظروف المحيطة تُقبل السعودية لإنقاذ سوريا، ولن تغيب أو تتراجع بعد الآن. ولكي تكون المآلات ملائمة وسريعة بقدر الإمكان، لا بد من تضامُنٍ عربي مع السعودية، فكل تلاعب أو تذاكٍ لا يفيد الأسد الوحش الأسطوري فقط، بل يفيد بالدرجة الأولى إيران. ثم إنّ جهات عربية عدّة هي حليفة للولايات المتحدة، وتتسابق الآن للتصادق مع روسيا بوتين: فهل يستطيع العرب أن يكونوا في أشهر عام 2016 بكلمة واحدةٍ تجاه الأميركيين والروس، مع السعودية في سوريا، ومع الفلسطينيين في فلسطين؟
عندما تحدث الأمير سعود الفيصل عن الخواء الاستراتيجي عام 2010 ما اهتم أحد للأمر. لكنّ السنوات الماضية التي شهدت عجزًا فاضحًا حتى في الدفاع عن النفس، تجعل من التصدي السعودي للقضايا الاستراتيجية ذا دلالاتٍ بارزةٍ للحاضر والمستقبل.
قبل أيام تصاعدت خُطب وتحريضات نصر الله على السعودية. فعرفنا جمعيا أنه مضطربٌ للمشكلات الهائلة التي تعاني منها إيران في مناطق نفوذها. ومضطربٌ أكثر لأن عروبة السعودية برزت في مواجهة خلافة «داعش» وولاية الفقيه على حدٍ سواء.
فلنكن مع المملكة، لتبقى الشام، ونبقى عربًا!