سارة ربيع
TT

اضحك «المرارة» تطلع حلوة

تقول الأسطورة في بلادنا العربية، إن الضغط العصبي والمشكلات والهموم، تؤدي في النهاية إلى «فقع المرارة»، ولم يجد الطب تفسيرا علميا لهذه العلاقة، ولكن العائلة والأصدقاء، أصروا على أن يعرفوا من الذي «فقع مرارتي»، والتي تستدعي حالتها جراحة لإزالتها، استهلكت شهرين أبحث في أصل الأسطورة، وأسأل طبيبي في كل مرة، فيبتسم ويخبرني أن أسرع في إجراء الجراحة، ولكن استسلامي للطب لم يكن بالسهل!
فما زلنا في مجتمعنا المعاصر، المتضخم بالتكنولوجيا والأبحاث والدراسات، نخشى الطب ونفزع من ممارسيه، نصاب بالاكتئاب إذ ما فكرنا فقط أن نزور طبيبا، تؤثر تجاربنا العائلة في شعورنا تجاه المستشفيات، فنستبعد تلك وذاك لذكريات مؤلمة مرت علينا فيها، تتجه أمهاتنا إلى تطبيق دروس الأجداد من وصفات شعبية، كانت جدتي تصف لجيرانها أدوية الروماتيزم والبرد والأنفلونزا بجدارة استشاري واع لما يقول، وفي كل مرة أهرب من الزيارة الطبية أتذكر جدتي، إلى أن تأزمت الحالة إلى الحرجة ودخلت المستشفى.. هنا بدأ العرض الإنساني المبهر.
تلك التجربة التي لم أمر بها من قبل، نصحني صديقي الطبيب أن أستمتع بالرحلة! أن أشاهد الموقف كأني في فيلم سينمائي، لأن غرفة العمليات مسلية بشدة ولكن هذا يعتمد على حظ المريض، إذ من الممكن أن يقع حظه مع «الشلة اللطيفة الكوميدية» أو يقع مع «الشلة الكئيبة البائسة».
انتهى حديثنا ولم أفهم نصف ما يقول، ولكني ليلة الجراحة، استقر قلبي على أن أوجه الموقف، بطريقة أخي الراحل، هذا الولد الجميل الذي واجه جراحات المخ والأعصاب لمدة 10 سنوات من سنوات عمره الـ15 فقط، كان يضحك ويطلق النكات والقفشات الكوميدية في أروقة المستشفى، التي أمضى فيها أكثر من نصف عمره، كان يعرفه كبار الأطباء والمتخصصين قبل طاقم التمريض وأفراد الأمن، بل والنزلاء أيضا.
في تلك اللحظة التي يسير الممرض بسريري إلى غرفة العمليات، تتدفق مربعات الإضاءة في رأسي، يشد أهلي على يدي، قبل أن يمنعوا من دخول «المنطقة المحظورة».
هنا يدب الخوف في أوصالك، تعي أنك هنا بمفردك، دون الأحبة والأهل ولكن ابتسم.. أنت الآن مع الله تشعر بموجات من السكينة والطمأنينة وأنت تقرأ «سورك» وتدعو في سرك ولا يسمع ما تردده إلا نفسك، خاصة لو كان في يوم «عرفات».
لم يقطع تلك السكينة إلا بداية العرض المسرحي، ظهر في الآفاق مجموعة من البشر في زي العمليات الأخضر والأزرق، أحدهما عريض المنكبين كلاعبي الهوكي، أخبرني أنه طبيب التخدير و«كله هيبقى زي الفل»، ثم ظهر طبيبي الجراح، كان أكثر ودا عن زيارات العيادة، ألقى علي السلام سريعا ثم انصرف يتلقط بعض الصور لـ«فيو» النيل الجميل الذي يظهر من زجاج غرفة الإعداد للعمليات، شعرت وكأني في أحد برامج الكاميرا الخفية، بحثت بعيني يمينا ويسارا عن شخصية «زكية زكريا»، فظهرت رأس طبيب آخر، عريض المنكبين أيضا، يخبرني أنه من فرقة «777» للحماية والتأمين وأن كل الأمور تحت السيطرة.
كان ينقصنا فقط هاتفي لنأخذ صورة «سيلفي» قبل الجراحة، وأن نطلب قليلا من شطائر البيتزا الساخنة ونسمع معها «ودارت الأيام» لكوكب الشرق.
سألتهم مازحة: «أين الأداء الذي نراه في الأفلام عن العمليات؟»، فأجابوا أن زمن «عادل أدهم» انتهى مع الأسف وأننا في مواسم الأعياد فابتسمي.
كل هذا لم يستغرق خمس دقائق أو أقل، ولكن مع انطلاق الضحكات والهمهمات هنا وهناك، استمرت «تيسير» الممرضة التايلاندية في صمتها وثبات ملامح وجهها، فغفوت وأنا أفكر «لماذا لا تضحك تيسير؟ هل أنا دمي ثقيل يا تيسير؟».
تجربة «المرارة» جعلتني أكثر امتنانا للعالم، وللرحمة الربانية، والعفو والحب الإنساني النقي، وأكثر تقديرا للطب ورجاله المخلصين، جعلتني أؤرخ حياتي تبعًا لما قبل المرارة وما بعد المرارة، تجربة المرض تكشف لك من حولك جيدًا، تٌعيد صياغة علاقاتك من جديد، تعرف الملهوف عليك ومن لا يبالي ومن يقف في المنتصف ومن خرج من دائرة اهتمامك.
تجربة المرارة، تثبت لي أنه بالضحك يمر الألم في سلام ملوحًا لك بحب، تمر الساعات أسرع والأزمات أهون وأحن.. بالضحك يستطيع الفرد التمتع بإنسانيته ووجوده رغم كل شيء.