مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

البوتينية والرغبات الفاضحة

أراد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يكون واضحًا في المطالب التي تضمّنها خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكنها تحولت إلى مطالب فاضحة، إذ خلا الخطاب من أبسط قواعد الدبلوماسية التي تمسّك بها أسلافه السوفيات زمن الأزمات التي سادت أجواء الحرب الباردة. فقد نحى جانبًا مبدأ دبلوماسية الخيارات الصعبة التي طبّقها الروس طيلة عقود، والتي تأسست على خيار «صافح بيد وامسك الحجر باليد الأخرى» بعدما تراءى له أنه في الموقع الذي يمكّنه من الاكتفاء برفع اليد التي تحمل الحجر فقط، ورمى خصومه به من على منبر الأمم المتحدة.
اعتمد بوتين في تحديه الأخير على نتائج سياسة الانكفاء التي انتهجها الرئيس الأميركي باراك أوباما منذ سنوات. فلولا تراجع أوباما عن معاقبة الأسد على استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري لما غامر بوتين وضمّ القرم بهذه السهولة، وتحدى بذلك الإرادة الغربية بدعم الجماعات الانفصالية شرق أوكرانيا، وصولاً إلى التدخل العسكري في سوريا ومطالباته الفاضحة بضم الأسد ونظامه إلى الحلف الدولي في الحرب على الإرهاب، والإصرار المستفز على ضرورة التخلي عن فكرة إسقاطه أو المطالبة بتنحيه. وكأن بوتين أراد أن يخيّر العالم بين فاشية إرهابية لا تعرف حدودًا، ومستبد محصور داخل بلده! فانتقد بوتين الغرب لتمسكه ببعض الأخلاقيات السياسية وحقوق الإنسان والحريات، وذكّره بأنه كان حليفًا لأشرس الديكتاتوريات الشمولية في القرن الماضي، أي سلفه السوفياتي جوزيف ستالين، في الحرب على النازية التي توحد العالم في مواجهتها. في تلك الحرب أعطيت الأولوية لهزيمة النازية على حساب سلبيات الشراكة مع أنظمة ديكتاتورية شمولية، وقد استطاعت هذه الشراكة إنتاج استقرار شبه مستدام في زمن الثنائية القطبية، سرعان ما تحوّل إلى نزاعات دموية تحت مظلة الأحادية القطبية.
من على منبر الأمم المتحدة، أعلن بوتين أنّ التدخل الخارجي لإسقاط الأنظمة مخالف للشرعية الدولية، من صدام حسين حتى القذافي. فبالنسبة إليه من يدعم اليوم المطالبة برحيل النظام السوري سيدعم مستقبلاً رحيل أنظمة أخرى من إيران مرورًا بأغلب جمهوريات آسيا الوسطى ووصولاً إلى روسيا. والتوتر المبكر للقيادة الروسية في التعامل مع كل ما جرى من تحولات، مبني على اعتقاد جازم بأنّ ما بات يعرف بالثورات الملوّنة والربيع العربي، هو صنيعة غربية تهدف إلى بناء أنظمة جديدة تدور في فلك الغرب الذي لم يتخل عن هدف محاصرة روسيا ونشر الفوضى الخلاقة في محيطها، ما قد يؤثر لاحقًا على استقرارها الداخلي. فبات بوتين في موقع المضطر للدفاع عن نفسه وعن مصالحه. وجميع هذه الهواجس دفعت الكرملين سريعًا إلى الوقوف في وجه التحولات المدنية أو العسكرية التي سادت كثيرا من الدول. فأيقن أنه لو تمكن من منع حصولها في ليبيا لما وصلت إلى دمشق، وأنه لولا دفاعه عن دمشق لكانت رياح التغيير باتت اليوم على أبواب موسكو. ومن هنا لم يعد مستهجنًا وصف المتظاهرين السوريين بالفوضويين، والقيام بضرب مواقع الجيش الحر، فهو بذلك يرسخ الموقف القائم على أنّ لا فرق بين متظاهر يطالب بحقوقه، ومن يحمل السلاح دفاعًا عن النفس وبين الإرهابيين.
يقود كل هذا إلى القول إن الغرب بات مفضوحًا بثقل هذا الواقع الذي تفرضه روسيا. وعليه مواجهته فلم يعد بإمكانه التهرب منه، فقد بات من الواقع أنّ لا شيء يمكن أن تقدمه موسكو إلى العالم سوى شمولية لا تخضع لأي رقابة قانونية، ولا تردعها التوازنات من تحقيق أهدافها، فأصبحت خطرًا على شعبها وجوارها والعالم، ما أجبر الغرب على استعادة أدبيات الحرب الباردة وأخلاقياتها في مواجهة سوف تجبره على تنحية مصالحه جانبًا في التعامل معها. فإذا خيّرت موسكو الغرب بين فاشية جديدة أو استبداد، فالغرب مطالب أمام شعوبه بتخيير موسكو بين العزلة أو الاندماج.