تحمل المعركة التمهيدية في السباق إلى البيت الأبيض، في كل أسبوع تقريبًا، خطابًا مثيرًا للجدل، ينمُّ عن ملامح تطرف ما، سواء لجهة العرق أو الدين أو دور الحكومة وعلاقتها بالمواطن والحريات الشخصية. غير أن الحدث الذي توقّف عنده كثيرون كان الخطاب الديني المرفوض للمرشح الجمهوري اليميني بن كارسون، عندما أعرب عن رفضه فكرة تولي مسلم منصب رئيس الولايات المتحدة. ومن المفارقات الفظيعة أن هذا الموقف التحاملي التمييزي يصدر عن مرشح متعلم ويتحدر من أصول أفريقية، ومعروف كم عانى الأميركيون من التفرقة العنصرية قبل حركة الحقوق المدنية.
ثمة من يرى اليوم أن الأصوليات اليمينية المتزيية بزي الدين غدت من أخطر أدوات نشر الفوضى السياسية حول العالم من جديد. ومن ثم، ربما بات من الضروري التساؤل عن كيف يجوز للأفراد والحكومات تسخير الأديان كمفاهيم روحية ومنطلقات أدبية وأخلاقية لإثارة النعرات المذهبية والطائفية، لتي بدورها، تولد المزيد من الصدامات والشقاق حول الكرة الأرضية؟
واقع الحال أن العزف السيئ السمعة من قبل أصحاب السلطة على أوتار التنوع والتعدد الديني أمر ليس جديدًا على الإنسانية. غير أن مجاله اتسع وصوته ارتفع خلال القرن العشرين منذ بداياته وحتى منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. وهذا ما جرّ الكثير من الحروب وهزّ حالة السلم والأمن الدوليين، عطفًا على ما يمكن أن يسببه من بث روح الفرقة من جديد حول المسكونة ليعود بنا إلى زمن صدام الحروب الدينية البغيضة.
التحريض السافر
المؤكد أن حالة التحريض المتواصل ضد الإسلام في الخطابات العامة الأميركية المتّصلة بحملة الانتخابات الرئاسية الحالية تبرّر عودة التطرّق إلى هذا الأمر المهم. وهذه حالة شديدة الوعورة والخطورة، لا سيما بعدما بدأت أبواق «الإسلاموفوبيا» تعزف من جديد عزفًا نشازًا، يفرّق ولا يجمع، يجرح ولا يشرح.
خلال الأيام القليلة الماضية وضمن المناظرات الأولية للمرشحين المحتملين لسباق الرئاسة الأميركية 2016، تحدث الجرّاح المتقاعد الأفريقي الأصل بن كارسون، أحد أصحاب الحظوظ المتقدمة في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري، عن إشكالية «دين المرشح للرئاسة.. وهل لا بد أن يتفق مع قيم ومبادئ أميركا أم لا؟»، ولقد ذهب الرجل مباشرةً إلى «أن الإسلام لا يتفّق مع الدستور الأميركي»، وأنه لا يؤيد أن «يتولى مسلم قيادة هذه الأمة». أما في ما يخصّ عضوية الكونغرس، فقال بن كارسون: «الكونغرس قضية مختلفة، لكن الأمر يعتمد على من هو ذلك المسلم، وما هي سياساته، بنفس الطريقة التي تتعلق بأي شخص آخر».
المشكلة أن بن كارسون لا يشكل حالة فريدة ضمن كوكبة المرشحين المحتملين، وحدها أظهرت مشاعر «الإسلاموفوبيا» على هذا النحو.
نعم، فلقد سبقه في هذا الطريق المرشح الملياردير دونالد ترامب، الذي يتصدّر المشهد بفارق كبير عن بقية منافسيه من الجمهوريين. وكان ترامب قد أثار جدلاً في الآونة الأخيرة حين أتاح الفرصة لأحد المشاركين في مهرجان انتخابي له بأن يقول: «لدى الولايات المتحدة الأميركية مشكلة مع المسلمين، باراك أوباما مسلم وليس أميركيًا». وهذه مقولة عنصرية تردّدها أوساط يمينية كثيرة في الداخل الأميركي، وتمشي وراءها أعداد كبيرة أيضًا من الأقليات ذات النزعات العنصرية والمتطرفة دينيًا.
في هذا السياق العنصري يبدو من الواضح جدًا كيف يجري التلاعب بمشاعر المواطنين وبالرأي العام، ومن ثم إحداث فوضى سياسية من خلال الترويج لمخاوف تخلط بصورة متعمدة بين الدين والسياسة. ومع أن الأصل في الدستور الأميركي أنه علماني لاديني، تبقى الولايات المتحدة، دائمًا وأبدًا، دولة علمانية الهوية مغرقة في الهوى الديني.
هل نحن الآن أمام موجة جديدة من «الإسلاموفوبيا» التي تجيد لحن الترويج للخطر الإسلامي؟
قد يعن لنا قبل الجواب أن نلقي نظرة على الماضي السياسي لعدة أنظمة حكومية، وكيف تلاعبت بمقدرات البعض من المسلمين، وأذكت نيران الأصوليات لتحقيق أهداف استراتيجية سياسية لا علاقة لها بالإسلام الصحيح في الحال أو الاستقبال.
خذ على سبيل المثال قيام وارتقاء حركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، ومساندة البريطانيين لها. يومذاك كان الهدف واضحًا ألا وهو ضرب الحركة القومية العربية الوليدة والبازغة في ذلك الوقت لرفضها الاحتلال الأجنبي للأراضي العربية، ودعوتها إلى تغليب فكر المواطَنة على ما عداه من آيديولوجيات سياسية.
هذا الدعم اتصل، وربما لا يزال حتى الساعة لجهة الأجيال الجديدة من التنظيم، وحتى لو ورثت واشنطن موقع لندن، وهو الأمر الذي كشفت عنه مجموعة الشرق الاستشارية، التي تتخذ من واشنطن مقرًا لها. فقبل بضعة أشهر أصدرت المجموعة تقريرًا يفصّل الوسائل التي اتبعتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لتنفيذ ما وصفته بـ«مخطّطها السري لدعم حركات التمرد والمنظمات الحقوقية في الشرق الأوسط منذ عام 2011»، وذلك من أجل إحداث فوضى سياسية في دول ومناطق جغرافية حول العالم لصالح أهداف سياسية، ومصالح خاصة بالأمن القومي للولايات المتحدة.
لا تتوقف التجربة التاريخية عند البريطانيين، بل تمتد كذلك إلى الألمان. وهذا ما توصل إليه الكاتب والباحث الكندي إيان جونسون في كتابه الشهير «مسجد في ميونيخ»، والقصة باختصار أن مسجدًا بُني في مدينة ميونيخ الألمانية الشهيرة كانت تدعمه ثلاث مجموعات بتسلسل تاريخي يبدأ من ثلاثينات القرن العشرين: الأولى مجموعة أرادت استخدامه كسلاح سياسي إبان الحرب الكونية. والثانية مجموعة مكوّنة من عملاء الاستخبارات المركزية الأميركية شرعت في انتهاج المنحى النازي ذاته، وسعت للاستفادة منه أملاً في استخدام الإسلام لمحاربة الشيوعية وكسر شوكتها. أما المجموعة الثالثة فكان قوامها حفنة من الإسلامويين الراديكاليين الذين رأوا في المسجد موطئ قد لهم في الغرب عبر إعطاء الغربيين البضاعة التي يريدونها والحديث الذي يتطلعون لسماعه وإن أظهروا خلاف ما أبطنوا.
وبالوصول إلى أواخر عقد السبعينات من القرن الماضي، مع الغزو السوفياتي لأفغانستان وجد كبار المنظّرين الاستراتيجيين الأميركيين أن أفضل طريقة لمحاربة الشيوعية ووقف الزحف السوفياتي المحتمل باتجاه المياه الدافئة ومنابع النفط في منطقة الخليج العربي يتمثل في إذكاء روح التطرّف الإسلامي. وحسب المؤلف ولّدت هذه الطريقة، في نهاية الأمر «داعش» الذي هو الطبعة الثالثة من التطرّف المُهلك ابتداء من أفغانستان ومرورًا بـ«القاعدة» حول العالم. والمثير أن الرجل الذي تفتّق ذهنه عن هذا الطرح، ما زال يحمل لقب «حكيم أميركا»، ونعني به مستشار شؤون الأمن القومي الأميركي الأسبق زبيغينو بريجينسكي، الفاعل بقوة من وراء الستار في عدد من إدارات واشنطن المتعاقبة لاحقًا.
هذه الأمثلة الثلاثة تعطي صورة أولية عن الفوضى السياسية الناجمة عن ارتفاع موجة «الدين السياسي» في الداخل الأميركي، ولقد ارتفعت إلى أعلى حدٍّ ومدّ في زمن الرئيس جورج بوش (الابن)، الذي استغل حادثة 11 سبتمبر (أيلول) 2001 غير الواضحة المعالم حتى الساعة لفرض الديمقراطية بالقوة وإقامة مجتمعات مطهّرة (puritanic) ومثالية (يوتوبية)، تناقض تمامًا المثل التي أسست عليها بلدان بعينها.
ولقد وقد وقف وراء بوش (الابن) أدبيًا وزخمته عقليًا، بل وعقائديًا، طائفة من المسيحيين الأصوليين الذين ساندوا الأفكار التي عرفت باليهو - مسيحية (Judo – Christian)، الذين سعوا للتحكم في مقدّرات الشرق الأوسط على نحو خاص، خدمة لتحقيق رؤى توراتية تتصل بالأرض المقدسة في فلسطين، ووصولاً إلى تحقيق التنبؤات الاسكاتولوجية - أي تلك التي تتصل باليوم الآخر وقيام الساعة - وجميعها، في واقع الحال وعند اللاهوتيين الثقات والمعتدلين، قراءات ممجوجة لا علاقة لها إطلاقًا بأي عمق ديني مسيحي حقيقي، إذ إنها متّصلة اتصالاً جوهريًا بأصوليات متطرفة تقود الناس إلى الشقاق والفراق.
«الإسلاموفوبيا» في أميركا
الشاهد أن «الإسلاموفوبيا» – أو رهاب الإسلام – لم يبارح أميركا، ولا سيما أنه يجد مَن يغذيه صباح مساء كل يوم. إلا أن هذه الظاهرة تكتسب لونًا ومذاقًا مختلفين في مواسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، وبالأخص، في ظل وجود مراكز دراسات وأبحاث لها صلات وثيقة بالتيارات اليمينية المتطرفة في البلاد هي التي تذكي نيران مثل هذه المخاوف وتنفخ في رمادها.
فعلى سبيل المثال، أظهرت دراسة أعدها معهد بروكينغز المرموق مع مركز بحوث الأديان في واشنطن أنه في شهر سبتمبر 2011 كان نحو 47 في المائة من الأميركيين يعتقدون أن قيم الإسلام لا تنسجم مع القيم الأميركية، كما أن الجمهوريين هم أكثر عرضة من الديمقراطيين للتأثر بهذا الرأي. والثابت أن المتابع الجيد لبعض وسائل الإعلام الأميركية ذات الملمح والملمس الجمهوري اليميني، مثل قناة «فوكس»، يدرك كيف أنه لا هم لها في مثل هذا الوقت إلا الترويج لفكرة النظر إلى الإسلام باعتباره تهديدًا، وكونه دينًا متطرفًا يدعو إلى الإرهاب.
هنا لا تعود تصريحات بن كارسون غريبة أو مثيرة للجدل، ولا يغدو ممكنًا قطع أوصال قناعات دونالد ترامب عن السياق العام المحيط بالعملية الانتخابية الأميركية الرئاسية. إن المرشحين المحتملين للرئاسة من الحزب الجمهوري يجدون اليوم أنفع لهم وأجدى أن يزايدوا حتى على المزايدين من دعاة التخويف من الإسلام والمسلمين، وذلك بهدف توسيع قاعدتهم الانتخابية، وجذب مزيد من المناصرين والداعمين دون أدنى اكتراث بأمرين غاية في الأهمية:
الأمر الأول، هو أن هذا التيار اليميني المتطرّف، الذي نحن بصدده، يهدم أهم الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة وهو بناء الحريات العامة دون قيد أو شرط، ناهيك بحرية المعتقد واليقين التي لا تتعارض مع الحقوق السياسية والمدنية لكل أميركي. وهذا يشمل، بالطبع، احترام الدين الخاص أو المذهب الخاص لكل فرد دون تمييز أو تخصيص. ومن ثم التعاطي مع كل من يحمل الجنسية الأميركية بالتساوي، بصرف النظر عن الديانة أو الانتماء الروحي. هذه الرؤية هي التي بنت أميركا عليها صورتها كـ«مدينة فوق جبل»، وبانهياره ينهار النموذج الخلاق للدولة الأميركية الأدبية أو المعنوية في عقول العالم وضمائره.
أما الأمر الثاني، فيتصل بكون خطابات كارسون وترامب العنصرية، تعطي فرصة ذهبية وتخلق أرضًا خصبة لأولئك الذين يتطلعون إلى إذكاء نيران الفتنة الدينية حول العالم، وفي الشرق الأوسط بنوع خاص نصيب وافر منهم. هؤلاء يرون في تلك التصريحات مدعاة لتأكيد فكرة حتمية الصراعات العالمية على أسس دينية، وهذا شعور يتعزّز عند البعض منهم يعتبر أميركا «رأس فسطاط الشر» في مواجهة العالم الإسلامي الذي يمثل وفق مفهومهم المجرّد «فسطاط الخير».
وعلى وقع تصريحات كارسون وترامب تستدعي الذاكرة ما قاله الراحل الكبير الدكتور إدوارد سعيد ذات مرة في مطلع الثمانينات، مع أن صراع الغرب حينذاك كان مع الشيوعية لا الإسلام، إذ أشار سعيد إلى أنه «بالنسبة للعامة في أميركا وأوروبا اليوم فإن الإسلام نوع من الأخبار غير السارة، ذلك أن وسائل الإعلام والحكومة والاستراتيجيين الجيوبوليتيكيين والأكاديميين الخبراء في شؤون الإسلام، كل هؤلاء – على الرغم من أنهم هامشيون في الثقافة ككل – يعزفون لحنًا واحدًا هو.. الإسلام مصدر خطر على الحضارة الغربية».
هل ستوفّر الفوضى السياسية الناجمة عن إذكاء روح الأصوليات الولايات المتحدة نفسها من استحقاقاتها وتبعاتها السلبية؟ ذكريات الحادي عشر من سبتمبر ليست ببعيدة، لذا فلتنظر.. ماذا ترى؟