كانت صلاة عيد الأضحى مميزة بالنسبة لمسلمي العاصمة الروسية موسكو هذا العام، حيث تمكنوا بعد انتظار طال عشر سنوات من إقامة الصلاة في المبنى الجديد للمسجد الجامع، المعروف أيضًا باسم «جامع موسكو الكبير»، وذلك في اليوم التالي لحفل افتتاح مهيب لهذا الصرح الديني، بحضور عدد من الرؤساء؛ في مقدمتهم الروسي فلاديمير بوتين الذي افتتح المسجد، ومعه الرئيسان الفلسطيني محمود عباس، والتركي رجب طيب إردوغان، فضلا عن محافظ موسكو، وجمع غفير من الشخصيات السياسية والدينية الروسية ووفود دبلوماسية إسلامية.
ومسجد موسكو واحد من أقدم مسجدين في العاصمة الروسية موسكو، بُني عام 1904، وتاريخ بنائه يروي جانبا من حياة المسلمين في مختلف مراحل الدولة الروسية؛ إذ تشير المراجع التاريخية الروسية إلى أن المسلمين في موسكو قدموا منذ عام 1894 طلبات عدة لسلطات المدينة للحصول على موافقة بناء مسجد ثان، نظرًا للزيادة الملحوظة حينها على عدد المسلمين فيها، إلا أن طلباتهم كان يرد عليها بالرفض. في عام 1902 قدم التاجران باقيروف وعقبولاتوف طلبا لمنحهما قطعة الأرض التي يقوم عليها المسجد حاليا، بهدف بناء مسجد ثان في موسكو. وفي العام التالي وافقت سلطات مقاطعة موسكو التي كان على رأسها في ذلك الوقت الأمير سيرغي ألكسندروفيتش، على مشروع بناء المسجد. ولما علم التاجر المسلم صالح يوسوبوفيتش بالقرار أعلن عن تقديمه كامل التمويل لكل أعمال البناء. وكتبت مجلة «زوداتشي» حينها: «المجمع المحمدي في موسكو يباشر أعمال بناء المسجد الثاني بعد شراء قطعة أرض بمبلغ 35 ألف روبل. ووضع تصميم مبنى المسجد المهندس نيقولاي جوكوف، بالأسلوب البيزنطي، مع صالات تتسع لمائتي مصلٍّ».
وفي عام 1904 توجه بدر الدين حظرات عاليموف، الإمام الأول للجامع الكبير في موسكو بطلب إلى السلطات كي تسمح له بفتح أبواب المسجد أمام المصلين.
بعد عدة سنوات، ومع سيطرة الشيوعيين على السلطة في روسيا تم تجريد صالح يوسوبوفيتش من كل أملاكه، لكنه رفض الهجرة من روسيا وبقي فيها ليعمل موظفا على باب أحد الفنادق في موسكو. لكن وعلى الرغم من حملات القمع ضد الديانات عموما، وإغلاق الشيوعيين معظم المساجد في روسيا، فإن جامع موسكو الكبير بقي مفتوحا أمام المصلين. ويرى مؤرخون أن عداء الشيوعيين في تلك السنوات للديانات خلق حالة من التوتر في العلاقات بين السلطات والمسلمين الروس الذين يشكلون نسبة لا يُستهان بها من السكان، لذلك قرروا الإبقاء على بعض المساجد لتخفيف حدة التوتر، وتفادي مواجهة مع المسلمين.
في فترة لاحقة من تاريخ روسيا، في كنف الدولة السوفياتية، استغل قادة الحزب الشيوعي جامع موسكو الكبير لتوطيد علاقاتهم مع دول عربية وإسلامية، ليظهروا من خلاله كأنهم لا يعادون الدين الإسلامي على الرغم من انتمائهم للفكر الشيوعي؛ إذ زار الجامع الكبير كل من جمال عبد الناصر ومعمر القذافي، والرئيس الإندونيسي سوكارنو. واستمر هذا المسجد، إلى جانب مساجد أخرى في روسيا، في لعب ذلك الدور في السياسة الخارجية الروسية، لا سيما في العلاقات مع العالمين الإسلامي والعربي. وفي مطلع التسعينات، أضيف للمسجد دور آخر، داخلي، تجلى في نشر الفكر الإسلامي المعتدل لمواجهة الأفكار المتطرفة التي غزت روسيا حينها.
تحت تأثير عوامل عدة، طرأ ارتفاع كبير على عدد المسلمين في العاصمة الروسية موسكو، ولم يعد المسجد يتسع للمصلين؛ ليس في صلاة العيدين فقط، بل حتى في صلوات الأيام العادية.
من جانب آخر، «بدأ المبنى يتصدع، واتضح أنه شُيد دون أساس في الأرض»، وفق ما قالت جلنارا خانوم، الناطقة الرسمية باسم مفتي روسيا الشيخ رويل عين الدين، في حديث لـ«الشرق الأوسط»، وأوضحت أنه «ضمن هذه الظروف، أعلن عام 2004 عن النية لبناء صالة إضافية للصلاة وترميم المبنى القديم. وتم وضع الأساس والحصول على التصريحات اللازمة عام 2005. إلا أن أعمال البناء تعطلت بسبب اكتشاف تجمع للمياه الجوفية تحت مبنى المسجد، نتيجة مرور أفرع نهر (نيغلينكي) تحت أرض المسجد، وذهب جهد كبير ووقت حينها لتجفيف هذه المياه، وتثبيت أسس البناء الجديد».
وفي عامي 2009 - 2010 تصدع المبنى القديم إلى درجة أنه لم يعد ممكنا الصلاة فيه، حينها تم اتخاذ القرار بإزالة المبنى القديم، وتشييد مبنى جديد يلبي كل المتطلبات، وفي مقدمتها القدرة على استيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين، هذا ما قالته جلنارا خانوم، التي أوضحت أن الممول الرئيسي لكل هذه الأعمال منذ عام 2006 وحتى الانتهاء من تشييد المبنى الجديد هو السيناتور عن جمهورية داغستان في المجلس الفيدرالي الروسي سليمان سليمانوف الذي أنفق قرابة مائة مليون دولار لبناء المسجد. وكانت هناك بالطبع التبرعات من عامة المسلمين الذين يدركون معاني التبرع لبناء بيت الله على الأرض. وأكدت جلنارا خانوم، الناطقة الرسمية باسم مفتي روسيا رويل عين الدين، أن أعمال البناء لم تتأخر لأسباب تتعلق بالتمويل، بل بسبب المياه تحت الأرض وكذلك بسبب بعض العراقيل البيروقراطية في الحصول على التصاريح الضرورية لمواصلة أعمال البناء.
«جامع موسكو الكبير» يحكي تاريخ الإسلام في روسيا
شيده التاجر يوسوبوفيتش عام 1904 وأعاد بناءه السيناتور سليمانوف
«جامع موسكو الكبير» يحكي تاريخ الإسلام في روسيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة