تدل تصريحات كبار السياسيين الألمان على أن بلادهم لم تعد بمنأى عن خطر تنظيم داعش، ويجب اتخاذ خطوات حاسمة تدل على حقيقة حجم هذا التنظيم في ألمانيا وأنه لم يعد يقتصر على مجموعات صغيرة، بل له شبكة تعمل ضمنها، ولقد ارتفع عدد الموقوفين العائدين من ساحات القتال في سوريا أو العراق لمحاكمتهم، وتجري حاليا ثاني محاكمة لشابين تونسيين وعدد لا بأس به ينتظر المحاكمة.
في أول شريط فيديو باللغة الألمانية كشفت عنه دوائر المخابرات الألمانية، دعا تنظيم داعش إلى قتل كل كافر، كما هدد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وهدد بالقيام بعمليات إرهابية في ألمانيا والنمسا. وفي الفيديو أيضا مشاهدة لعملية إعدام رهينتين في مدينة حلب. وكتحد للسلطات الألمانية يظهر في الفيديو الذي يبلغ طوله خمس دقائق ونصف الكثير من أعضاء التنظيم في ألمانيا والنمسا، من بينهم المدعو أبو عمر الألماني، ويعتقد أنه ألماني الأصل، والنمساوي المتشدد محمد محمود الملقب بـ«أبو أسامة الغريب»، وكان يعيش في فيينا، ودعا كل المسلمين في ألمانيا لذبح الكفار، قائلا: «لا تحتاج سوى إلى سكين كبيرة من أجل ذبح الكفار كما الكلاب». كما وجه تهديده إلى المستشارة ميركل بالقول، سوف نثأر لما وجه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) من شتائم ولما سببتموه من دماء وللأسلحة التي أرسلتموها إلى أعدائنا في أفغانستان، وستكون أعمال الثأر في بلادكم.
وكان أبو عمر الألماني القيادي بتنظيم داعش هدد بإمارة للتنظيم في أوروبا عاصمتها برلين. ومن جانبها دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى التصدي بحسم للإرهاب الدولي، وتوعدت بالقضاء على التطرف.
بدأت في مدينة ساليه شرق ألمانيا محاكمة تونسيين يحملان الجنسية الألمانية «إبراهيم هـ . ب» (26 سنة) و«أيوب . ب» (27 سنة) بتهمة الانتساب إلى تنظيم داعش والقتال في صفوفه في سوريا والعراق وتقديم الدعم المالي له ومحاولة تجنيد شباب للالتحاق بالتنظيم. ويُتهم إبراهيم بالتدرب على القتال العام الماضي والتخطيط لعملية انتحارية في بغداد، بينما يواجه أيوب تهمة انتسابه طواعية إلى «داعش» من أجل القيام بعمليات انتحارية، ويعيش الشابان في مدينة فولفسبورغ الألمانية وتعتبر قلعة للمتطرفين، إذ سافر منها حسب السلطات الألمانية نحو 20 شخصا التحقوا بتنظيم داعش. وسبق لإبراهيم أن اعترف بأن السجن في ألمانيا بالنسبة له أرحم من الحرية في سوريا لفظاعة ما يجري هناك. وتراهن السلطات الألمانية على أقوال الشابين للحصول على معلومات حول السبل التي يسلكها «داعش» من أجل تنظيم أو جذب الشباب في ألمانيا وغيرها.
والحكم الذي يطالب به الادعاء العام هو السجن لمدة عشرة أعوام، في الوقت الذي يحاول فيه المتهمان التنصل من كل التهم رغم وجود أدلة تؤكد مشاركتهما في معارك في سوريا والعراق. والادعاء العام على قناعة بأنهما عادا إلى ألمانيا بالفعل لكنهما ما زالا متمسكين بآيديولوجية «داعش» الإرهابية لأنهما على قناعة بها، مما يدفع إلى التشكك في نيتهما القيام بأعمال إرهابية في ألمانيا. كما يستند في مطالبته بإنزال أشد العقوبات إلى سلوك أيوب في السجن بأنه يتصرف عكس ما يدلي به أمام المحكمة بأنه أجبر على القتال، أيضا إلى اتصالات له عبر «تويتر» يتحدث فيها عن معركة مثلا في البوكمال عن الحدود السورية - التركية في 11 من أغسطس (آب) 2014 وصور أرسلها إلى أصدقائه وهو يحمل بندقية كلاشنيكوف، لكن أيوب ينفي ذلك، ويحاول محامي دفاعه توفير أدلة تثبت أن موكله ومن دون إرادته التحق بصفوف «داعش» وأنه فوجئ عند وصوله إلى سوريا بأنه لدى تنظيم داعش الذي فرض عليه إما القتال أو القيام بعمليات انتحارية، وكان عليه اختيار حل يضمن بقاءه على قيد الحياة.
وتقول معلومات من أوساط أيوب بأنه كان يهوى كرة القدم والحفلات والشرب والنساء ولا يسلك حياته بناء على التعاليم الإسلامية، وقبل فترة وجيزة من سفره مطلع شهر يونيو (حزيران) 2014 تلقى من شركة «فولكس فاغن» عقد عمل، لكنه ألغي بسبب غيابه المستمر عن الدوام. ولقد اعترف بأنه هو الذي اتصل بـ«داعش» وكان يعتقد أن الأمر يتعلق بسفره لتلقي دروس بالدين الإسلامي. أما صديقه إبراهيم فيعتبر ضمن محيطه رجلا هادئ الطباع وألغى زفافه الذي كان سيقام قبل أيام من سفره إلى سوريا.
وحسب الادعاء العام في محكمة ساليه سافر إبراهيم وأيوب نهاية شهر مايو (أيار) 2014 جوا إلى تركيا ثم عبرا الحدود ووصلا إلى ما يسمى معسكر الاستقبال وأجبرا على تسليم جوازي سفريهما وهواتفهما الجوالة.
وسلوك «إبراهيم ب» لافت للنظر، فهو أول إرهابي يحاكم يتحدث قبل المحاكمة مع الإعلام من سجن الاحتراز وسمح له بذلك، ففي إحدى مقابلاته تحدث عن تجربته المرة حسب وصفه، وقال إنه «كان يريد أن يكون انتحاريا ليصبح بطلا، لكنه غير رأيه لأنه اكتشف حقيقة تنظيم داعش، واعترف بأنه كان من مجموعة فولفسبورغ المشكلة من عشرين شابا التفوا حول المتشدد ياسين أو سيف في مسجد الاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) في هذه المدينة وأقفلته السلطات الأمنية اليوم». وكان أوسيف يحثهم على الانتماء إلى «داعش» بالقول كيف بإمكانهم العيش بهناء وشبان مسلمون يموتون جوعا ونساء مسلمات تغتصب. وكان أوسيف يغري الشباب في المسجد بإمكانية حصولهم على سيارات فخمة والزواج بأربع نساء إذا ما التحقوا بتنظيم داعش.
كما نقلت أقوال «إبراهيم ب» صورة لم تكن متوفرة من قبل عن أمور داخلية لتنظيم داعش، منها أن قيادة «داعش» مصابة بالقلق والخوف دائما من وجود جواسيس في معسكراتها أو ضمن كوادرها، لذا يوضع كل من يلتحق بها تحت المراقبة لفترة طويلة جدا، وقد يكون في السجن بعكس الماضي، حتى إن البعض منهم وكان هو واحد من بينهم وضعوا في زنزانة ملطخة بالدماء، بعدها قرر الهرب ونجح في نهاية أغسطس عام 2014، وكان قبل ذلك قد فشل في تنفيذ عملية انتحارية في بغداد بعد كشف أمرها قبل تنفيذها، وقال أيضا إن «ممارسات (داعش) لا علاقة لها بالدين الإسلامي».
وسبق أن أصدرت محكمة في ميونيخ في شهر يونيو الماضي حكما بالسجن على شاب «هارون ب» (24 عاما) وهو أفغاني يحمل الجنسية الألمانية لمدة 11 عاما وذلك بتهمة الانتماء إلى تنظيم داعش والمساعدة على محاولة القتل والقتال في سوريا. ولقد اعترف أمام المحكمة بأنه أطلق قذيفة هاون أثناء هجوم إرهابي على السجن المركزي في مدينة حلب السورية. ورغم الحكم الطويل بحقه زود هارون السلطات بمعلومات مهمة تتعلق بمحاكمات إرهابيين في برلين ودوسلدورف.
يقول هانز دلكر مسؤول بالأمن القومي الألماني لـ«المجلة»: «يشكل تنظيم داعش خطرًا على أوروبا أكثر من دول المنطقة العربية حيث حملت ثاني محاكمة لأعضاء في التنظيم معلومات جديدة تشير إلى التقنية العالية التي يتم فيها التحضير للعمليات الإرهابية وإن المشرفين عليه أو على العمليات ليسوا هواة تكنولوجيا بل خبراء ذوو معرفة حتى بكيفية استعمال الأسلحة الحديثة، ولقد تمكن التنظيم أيضا من بناء شبكة إرهابية في ألمانيا عالية الاحترافية تجعله على اتصال بمساعديه والمنتسبين إليه أو الموالين له، مع ذلك استطاعت السلطات الأمنية عبر الثغرات التقنية الكشف عن مكالمات هاتفية لأعضاء لها، منها تونسي يعتقد أنه رئيس الشبكة في ألمانيا (لم يعلن عن اسمه لأسباب أمنية حسب المسؤول الأمني) وعمره 39 سنة تم التنصت على مكالماته وقال في أحدها إن الشبكة في ألمانيا تابعة لـ(داعش) ومهمتها رعاية مئات من عائلات أعضاء تنظيم داعش في الخارج، وهي تتلقى بشكل متواصل الدعم المالي من (داعش) ليوزع بعد ذلك على المقاتلين وعائلاتهم. وهذا التونسي كان ملاكما وقال مدربه عنه إنه يمتلك قدرات جسدية هائلة، فهو يتحمل التعذيب وله قدرة كبيرة على تعلّم ما يصعب على الآخرين تعمله».
ويضيف دلكر «لا يستطيع مكتب حماية الدستور تحديد رقم لعدد الإرهابيين في ألمانيا فقد يصل اليوم إلى 6300 وحتى نهاية هذا العام إلى 7 آلاف وكان العدد في الأعوام الماضية لا يتجاوز 2800». بينما يقول هانس جيورج ماسن مدير مكتب الادعاء العام الألماني «بالطبع هناك أشخاص نعرفهم بالاسم إلا أن سبب عدم التمكن من تحديد رقم لمن يغادر للالتحاق بصفوف (داعش) في سوريا أو العراق هو دائما وجود أشخاص جدد يريدون التوجه إلى هناك لا نعرفهم أبدا، لذا يمكن الحديث فقط عن أرقام مخيفة، لكن ما هو مؤكد أن ما بين سبع وعشر عمليات انتحارية قام بها أشخاص من ألمانيا، وعدد العائدين إلى ألمانيا نحو 150 الكثير منهم لا نعرف ماذا فعلوا في معسكرات التدريب، لكن 25 شخصا على الأقل شاركوا في معارك حقيقية، وهذا ما تعمل السلطات الأمنية على الكشف عنه».
الفضل في توقيف التركي «عصمت د» (41 سنة) ويعرف بالأمير ويسكن حي موابيت في برلين وغالبيته من الأتراك والعرب، يرجع إلى معلومات أدلت بها أرملة أحد المقاتلين الذين قتلوا في سوريا، وهي من أذربيجان. والموقوف اعتقل مع أمين (43 سنة) وهو صديق له بتهمة المشاركة في عمليات خطيرة في سوريا والشكوك بقيام عصمت بغسل أموال لصالح تنظيمه، وأطلق سراح الاثنين بعد وضعهما تحت المراقبة ومنعهما من مغادرة ألمانيا. كما أفشت الأرملة الحزينة معلومات عن أربعة داعشيين في برلين من الشيشان وداغستان وتم تفتيش شققهم.
لم يخف توماس دي مزيير وزير الداخلية الألماني قلقه من تعاظم شأن «داعش»، فهو قال في حديث له إن «عدد المنتسبين في ألمانيا إلى هذا التنظيم مع من غادر للقتال في سوريا والعراق يصل إلى 6500 مما يدفع إلى القول إن ألمانيا تعيش تطورات شبيهة بتلك التي تعيشها فرنسا وبلجيكا، إلا أن أجهزة الأمن تمكنت عبر عدة سبل ووسائل من جمع معلومات لا بأس بها حول أنشطة المتشددين في ألمانيا، ومن تحديد هوية أكثر من ألف شخص يشكلون بالفعل تهديدا لأمن ألمانيا، وعدد الملتحقين بمناطق التوتر بهدف القتال يزداد شهرا بعد شهر». كما يحقق الادعاء العام بشأن مقاتلين متهمين ليس فقط بالانتماء إلى تنظيم محظور، بل وتعذيب معتقلين لدى التنظيم وعملوا في معتقلات جرت فيها عمليات قطع رؤوس الرهائن الأميركيين والبريطانيين واليابانيين، وهذه كانت اعترافات شاب ألماني عاد إلى ألمانيا وكان قد عمل في عدة معتقلات تابعة لـ«داعش»، والتحقيقات جارية معه لمعرفة السبل التي تمكن بها من الخروج من المناطق التي تسيطر عليها قوات «داعش».
ما يقلق ألمانيا اليوم هو تزايد عدد الفتيات اللواتي يلتحقن بتنظيم داعش. وحسب معلومات مكتب حماية الدستور من النساء المتخصصات بصيد الفتيات سيدة يطلق عليها اسم «أم أسما»، تمكنت خلال العامين الماضيين من إرسال أعداد كبيرة من الفتيات للانضمام إلى تنظيم داعش في العراق وسوريا، من بينهن فتيات من ألمانيا، لذا يعتقد المكتب بوجود تعاون بين نساء مثل أم أسما يقمن حاليا في سوريا أو العراق ومتعاونات معهن في ألمانيا من أجل البحث عن فتيات. وعن مصير الفتيات عند وصولهن يقول المصدر إنهن يصلن إلى سوريا غالبا من أوروبا ويجمعن في معسكر بمدينة الرقة السورية، وهو بحراسة مشددة من قبل نساء، ويحجزن هناك إلى حين اختيار أزواج لهن، ومن ألمانيا وحدها تقدر المخابرات الألمانية وجود مائة فتاة، لكن المشكلة الكبرى التي تخشى ألمانيا مواجهتها إغراء الأمهات بالتوجه إلى تنظيم داعش برفقة أولادهن فهذا ما حدث في بعض البلدان.
وأسهل الكمائن لاصطياد الفتيات هي المنتديات الصغيرة التي تحاول القائمات عليها إقناع الفتاة كي تصبح جزءا من مجتمع النخبة الإسلامية الجديدة، أي ما يطلقون عليه «الدولة الإسلامية» التي يريد «داعش» بناءها. وهناك فتيات ينتمين إلى «داعش» لهن نشاط على شبكة التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات التي تجذب الفتاة خاصة المراهقة. وعندما تعلق واحدة في الصنارة تظل تلاحقها إلى أن تقنعها بجمال الحياة «في ظل دولة داعش والزواج بمجاهد مسلم»، والخطوة الأخيرة تكون التخطيط للوصول إلى سوريا أو العراق. وهناك داعشية ألمانية تطلق على نفسها اسم «المهاجرة» ترافق الفتيات عن طريق «فيسبوك» وتكتب لهن عن حياتها الجميلة في العراق على أساس الدين الإسلامي. كما أنها تقدم نصائح ومعلومات قد تحتاج إليها زوجات المجاهدين في ألمانيا أو الوعد بالعثور على عريس مقاتل لوجود الكثير من المقاتلين غير متزوجين. وتستخدم بعض الداعشيات «تويتر» لإرسال تغريدات لوصف المجتمع المسلم حسب التشريعات الداعشية والحديث عن مباهج الحياة الأسرية وتربية الأطفال لكي يصبحوا مقاتلين من أجل الإسلام.
والخطير ظهور منحى جديد عن طريق «تويتر» وهو موقع «أسك إف إم» يشرح كيفية بحث القاصرات عن سبل لكيفية التعامل مع الوالدين اللذين يرفضان السماح لهن بالالتحاق بـ«داعش» وأيضا السبل للوصل إلى سوريا أو العراق، إلا أن بعضهن في ألمانيا تغلبن على رفض الوالدين بادعاء السفر إلى بلد أوروبي شرقي له حدود مع تركيا، وهذا سهَّل - حسب وزارة الداخلية الألمانية - سفر نحو 600 فتاة من ألمانيا يوجدن حاليا في مناطق لتنظيم داعش في العراق وسوريا بأعمار ما بين 16 و27 سنة، من بينهن زوجات مقاتلين، نصف هذا العدد سافر الصيف الماضي والسيل لا ينقطع، مع أن شرطة الحدود أوقفت العشرات منهن.
وحيال هذا النفوذ المتزايد لـ«داعش» وهذا ما لا يعترف به السياسيون الألمان، لا يتم بالفعل اتخاذ إجراءات قانونية صارمة جدا للمواجهة، ما يسمح لأنصار هذا التنظيم بالعمل بهدوء، مثل السفر من دون صعوبات، بالأخص عن طريق بلدان مثل رومانيا وبلغاريا، أو حتى من البلدان ضمن معاهدة شنغن التي رفعت الحدود، مثل قبرص أو مالطا القريبة من ليبيا. والمشكلة الأخرى التي تجب مواجهتها بسرعة سهولة دخولهم إلى تركيا، فإذا ما تواصل الوضع فإن منابع تزويد «داعش» بوقود بشري لن تنضب. وما يزيد الطين بلة أن القوانين التي ناقشتها ألمانيا لمواجهة سهولة السفر والعودة لم تقر بجدية بعد، مثل سحب الهوية وجواز السفر من كل من تحوم حوله الشبهات بانتمائه أو نيته السفر للالتحاق بصفوف «داعش»، وهذا يسهل أيضا عملية سفر الفتيات دون السن القانونية إلى سوريا عبر تركيا.
*ينشر بالتزامن مع مجلة المجلة - عدد سبتمبر (أيلول) الحالي