هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

الإسلام بين النهر والصحراء

كتب الدكتور جابر عصفور وزير الثقافة المصري السابق والناقد المعروف منذ أيام مقالاً مثيرًا عما سماه «الإسلام الوطني المصري»، مستعرضًا الجهود السياسية والعلمية للمصريين منذ منتصف القرن التاسع عشر، في إطار بلورة تصور نظري لطبيعتهم الدينية.
وأكثر ما أثار اهتمامي في هذا المقال مصطلحان، هما «الإسلام النهري» و«الإسلام الصحراوي»، حيث حاول الدكتور جابر عصفور التفريق بين تصورين للإسلام، يعتمد أحدهما (الإسلام الصحراوي) على التشدد والعنف، انتهاء بالتطرف والإرهاب، فيما يرتكز الثاني (الإسلام النهري) على التسامح واللين، مشكّلاً في النهاية إسلامًا مصريًا وسطيًا معتدلاً يدفع بالأمة إلى الأمام.
اعتمد الدكتور عصفور في مقاربته هذه – ضمن ما اعتمد - على الاختلافات التي وجدت في فقه الإمام الشافعي في نسخته المصرية عن النسخة العراقية، حيث «أضفت عليه (البيئة) المصرية من خصائصها ما دفع بالإمام الشافعي إلي أن يغير ثلاثين مسألة في فقهه، بعد أن ترك العراق واستقر في مصر، وفرضت عليه (البيئة) المصرية حضورها النوعي»، من دون أن يشير عصفور إلى أنه لا فارق بين «البيئة العراقية» و«البيئة المصرية»، فكلتاهما «بيئة نهرية»، طبقًا للتصنيف الأنثروبولوجي الذي اعتمده في المقاربة الدينية/ السياسية. لقد انتقل الإمام الشافعي تاريخيًا من بغداد إلى القاهرة، وكثير مما تغير في فقهه كان في كتاب «الرسالة»؛ وهو الكتاب الذي ألفه في بغداد وغيّر بعض مسائله في القاهرة.
لقد تغافل جابر عن عدة ملاحظات منهجية، منها:
أولا: الاختلاف في فقه الإمام الشافعي، وبالتبعية في تصور الناس عمومًا، لا يجب - بل لا يمكن - النظر إليه من منظور واحد، فليست هناك ظاهرة ترجع في تكوّنها إلى سبب واحد أبدًا. ولو أرجعنا بعض فقه الشافعي إلى «البيئة» التي عاش فيها، فإلى أي «بيئة» من البيئات التي عرفها وعاش فيها يمكننا إرجاع فقهه كله؛ إلى غزة، حيث ولد ونشأ؟ أم إلى المدينة المنورة، حيث تلقى بعض ما تعلم خاصة فقه الإمام مالك؟ أم إلى بغداد، حيث تعلم وعلم وألف الكتب؟ أم إلى مكة، حيث درّس؟ أم إلى القاهرة؛ حيث عاش أهم وأنضج فترات حياته وغير وعدّل في أفكاره وفقهه؟
لا تفوتني هنا إشارة الدكتور جابر عن طبيعة إسلام المصريين من أنه «إسلام منبسط المزاج انبساط وادي النيل، وسمح المبادئ سماحة الحياة حول ضفتيه، إسلام يتقبل الآخر في بيئة سبقت الإسلامَ فيها ديانتان سماويتان، فيتقبل التعددية الدينية، والتنوع الفقهي»، وكأن الإسلام دخل إيران على لا شيء، ودخل العراق على لا شيء، وكأن كذلك كل الدول التي دخلها لم تكن فيها ديانات. ألم ينزل في الجزيرة العربية على ديانتين سماويتين وديانات أخرى وثنية، وهو نفسه ما حدث في كل البلاد التي دخلها؟
ثانيًا: قد تختلف تصورات الناس حول أمر ما، ومن تلك الأمور بطبيعة الحال تصورهم لما يدينون به، وقد أرَّقَ هذا الاختلاف في التصورات الدينية باختلاف المجتمعات – وليس البيئات – كثيرًا من الباحثين، وهو ما يعرفه كثير من أهل الصناعة. والمثال الأبرز مؤخرًا الدكتور عبد الله خلايفي في كتابه «الإسلام العربي»، الذي نشر في سلسلة «الإسلام واحدًا ومتعددًا» التي صدرت عن رابطة العقلانيين العرب. وقائمة هذه النوعية من الدراسات تطول، كما لا يخفى على الدكتور جابر.
ثالثا: اختلاف التصورات الدينية لا يتأثر بالاختلافات الاجتماعية فحسب، فإن المجتمع الواحد قد تختلف فيه التصورات الدينية من فترة زمنية لأخرى، ومن نظام سياسي لآخر، وهو ما لا يخفى على لبيب. لقد مر الإسلام في مصر على سبيل المثال في نصف القرن المنصرم بمراحل يكاد يكون فيها أكثر من دين؛ بين إسلام الستينات القائم على «العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس والطبقات»، وإسلام السبعينات المعتمد على الفوارق الطبقية، بين إسلام يحرض على محاربة العدو الصهيوني وإسلام آخر يؤكد على قيم السلام ومع العدو الصهيوني أيضًا.
بل إن المجتمع الواحد في الزمن الواحد تختلف فيه التصورات الدينية اختلافات بيّنة، إلى درجة أن ما يراه الدكتور جابر عصفور تحضّرًا قد يراه غيره خروجًا على الملة، وما يراه تسامحًا قد يراه مواطنه ومعاصره تسيّبًا وميوعة.
الملاحظة الأخيرة في هذه العجالة أن هذا الاختلاف الهائل في التصورات الدينية فهمًا وتأويلاً، يقتضي – من الناحية العلمية والإنسانية، وليس الدينية – أن تحترم كل هذه التصورات، فكلها عزف وتنغيم بريشة واحدة على أوتار إنسانية اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة، وإن كان في اختلاف الفقهاء رحمة، ففي اختلاف التصورات والتأويلات والرؤى ثراء لا حدود له، وهو ما لا يغيب عن أكاديمي مخضرم مثل الدكتور جابر عصفور.