نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

تحرير النظام اللبناني وليس إسقاطه

سيمرّ وقت قبل أن تتضح طبقات الحراك الشعبي الذي يغلي به الشارع اللبناني. الوافدون إليه يصدرون عن خلفيات كثيرة يجمعها انهيار ثقتها بالنخبة السياسية الحاكمة، أحزابا وقوى وشخصيات. بعض جماعات الحراك تستسهل شعار «إسقاط النظام» في محاكاة بلهاء للشعار الذي اختصر مشهد الربيع العربي. وهي تخلط خلطًا مريعًا بين النظام، بوصفه الدستور والتشريعات المرتبطة، وبين الطبقة السياسية الحاكمة بأحزابها جميعًا. يبرز هذا الخلط أكثر ما يبرز حين يدعو دعاة إسقاط النظام إلى انتخاب وزير الداخلية السابق، الشاب المحترم زياد بارود، رئيسًا للجمهورية، الذي يمثل بشخصه وأدائه و«صورته» واحدة من قصص النجاح المدني داخل النظام وليس خارجه. لهذا الارتباك أسبابه، وعلى رأسها أن جزءًا كبيرًا من جيل الوافدين إلى حالة الاعتراض يدخلون إلى السياسة بعد طول اغتراب عنها وطول شعور بلا جدواها، وطول إيمان بفشل الدولة ومؤسساتها وفساد اللعبة السياسية واحتقار نخبها، على عكس الجيل الذي سبقهم إلى 14 آذار 2005 آتيًا من تجارب سياسية متقدمة ذات عصب مسيحي طلابي مسيس التحق به شبيبة مسلمون بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وبالتالي هم يفدون إلى الصدام السياسي بلا أي لغة سياسية جدية قادرة على فك طلاسم المفاهيم الأولية وفرزها بين ما هو نظام وما هو سلطة سياسية.
الواقع أن الأزمة الراهنة ليست أزمة نظام، بل أزمة طبقة سياسية، أو نخبة سياسية على اعتبار أن مفردة «طبقة» مصطلح ذو أبعاد ليست متوفرة في الإشارة إلى النخبة السياسية الحاكمة، أي النخبة التي تصنع السياسة في لبنان.
الحاصل الآن أن هذه النخبة التي اختصرت النظام المُراد إسقاطه، بنادٍ من الأشخاص، شديد الضيق بحيث لا يتجاوز الزعامات الرئيسية السبعة، تعيش اليوم أعمق أزماتها. وما دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري هذه النخبة للحوار، إلا دعوة هذه النخبة لمحاولة إنقاذ نفسها من ورطتها بعد أن فاجأها الشارع بالبعيد الذي ذهب إليه، وبالخروج الجاد عن طوعها، فهي بعد اختصار النظام بناديها ظهرت عاجزة عن تشغيل النظام نفسه، فكان الفراغ الرئاسي، والتمديد الشاذ لمجلس النواب مرتين، والتمديد لقادة الأجهزة الأمنية، وشلل الحكومة التي لا يمكن إلا أن تنتج نفايات سياسية ووطنية ودستورية وميثاقية!
هذا النادي هو التجسيد العملي لإلغاء الحياة السياسية في لبنان، فهو ألغى النظام بعد إلغاء الحياة الحزبية، باعتبارها الآلية الطبيعية لإنتاج النخب وإنتاج السياسة.
لم يعقد أي من الأحزاب الممثلة للنخبة السياسية مؤتمرًا حزبيًا جديًا واحدًا يفرز قيادة ونخبا تتأهل منها كتل نيابية ووزارية، خارج رغبة الزعيم وإرادته وقوله الفصل. هكذا بتنا أمام أنظمة مغلقة، وليس نظامًا، بعدد الطوائف الممثلة للمجتمع اللبناني، في كل منها زعيم مطلق يقرر من هم ضباط الطائفة وأساتذتها في الجامعة وقضاتها ومستثمروها ووزراؤها ونوابها وشخصياتها. وبالتالي فإن المشروع الواقعي المتاح اليوم هو تحرير النظام وليس إسقاطه، وهذا ما تدركه شرائح مهمة في الحراك وتعمل عليه، بدل التنافس الطفولي والاستعراضي لبعض الثوار الجدد أو المتسلقين ممن يلعبون لعبة إعلامية مبالغ فيها، كجرحى «احتلال» وزارة البيئة الذين دخلوا المستشفيات لساعات قليلة بعد أن شاهدهم اللبنانيون ينقلون على حمالات وهم على حافة موت مفتعل ومتوهم!!
أما تحرير النظام فيتم بوضع خريطة طريق لإعادة تكوين النخبة السياسية من خلال الضغط لانتخاب «رئيس جمهورية ثقة» وتشكيل حكومة تكنوقراط تشرك الحراك وقواه، أقله في ملف النفايات، والتمهيد لإجراء انتخابات برلمانية وفق قانون انتخابي يحظى بحد أدنى من العصرية والوفاق. والحد الأدنى هو معيار مهم كي لا تضيع فرصة إعادة تكوين السلطة بنقاشات مثالية وهمية لا أساس لها في الواقع السياسي وطبيعة ميزان القوى الآن.
الإشكالية الأساسية الثانية التي يواجهها الحراك وتواجهها دينامية الشرائح الداعية لإسقاط النظام أن هذه القوى تصطدم بواقع أن واحدة من القوى الرئيسية القاتلة للنظام هي قوة من خارجه تمامًا، وهي ميليشيا حزب الله. فهذه القوة وإن تمثلت في البرلمان وفي الحكومة تبقى بحكم تكوينها ومشروعها وأفعالها قوة خارج النظام. أي أنها لا تقيم وزنا للنظام في حساباتها، كقرار دخول الحرب في سوريا واليمن والعراق والكويت وإيواء المغسل وغيرها، ولا تخضع لمعايير المحاسبة في النظام. وهي القوة الرئيسية المانعة لانطلاق أي قوة سياسية بمشروعها بشكل جاد، بما فيها قوى 14 آذار التي تعيش اليوم انهيارا كبيرًا في مشروعيتها السياسية. ليست هذه الملاحظة لتبرير فشل 14 آذار، التي لم تنجح في تقديم أي شكل تنظيمي حقيقي يعكس تنوعها وشبابها وحركيتها. ولم تنجح في صوغ مواجهة استراتيجية مع حزب الله فيها منسوب أقل من التسويات والمداهنة وفائض الحرص الذي استنزف مصداقيتها، لكنها ملاحظة عادلة لا ينبغي إسقاطها لما ينطوي عليه الإسقاط من تغييب للدور التدميري لميليشيا حزب الله في الحياة السياسية والوطنية اللبنانية.
تحرير النظام وليس إسقاطه هو المطلوب، عبر خارطة طريق تجمع أكبر شريحة ممكنة من القوى المدنية اللبنانية، منعًا للانهيار الشامل. تحرير النظام من هيمنة نادي السبعة، وإعادة الاعتبار للسياسة ومن سلاح حزب الله وإعادة الاعتبار للدولة.