قيام مهرجان فينسيا بعرض نسخة جديدة من أحد أفضل أفلام فيديريكو فيلليني مناسبة للحديث عن مخرج ما زال اسمه مدويا حتى من بعد 22 سنة من رحيله. الفيلم المختار للعرض هو «أماركورد» أو «أتذكر»، وحمل أيضا عنوان «فيديريكو فيلليني يتذكر»، ولو أن المخرج صرّح مواربا بأن الفيلم ليس سيرته الشخصية.
في الحقيقة لم يحقق سيرة شخصية أو ذاتية لا في «أتذكر» ولا في أي فيلم آخر. استبدلها بمنظوره ورؤيته والكثير من نفسه. فيلليني لم يسرد ذكرياته أو سيرته، لكنه صنع عوالم من تلك الذكريات أكثر من مرّة. في «ثمانية ونصف» و«دولتشي فيتا» و«جنجر وفرد» و«أتذكر» من بين سواها. وحين لم يضع في فيلم تلك الشذرات الشخصية عالج أفلام ببصمته الخاصّة العصية على التقليد، وهذا شمل كل فيلم حققه من عام 1954 («لا سترادا») وحتى الأخير سنة 1990 («صوت القمر»).
ولد في مدينة ريميني الإيطالية في العشرين من يناير (كانون الثاني) سنة 1920. والده كان بائعا متجولا حلم أن يدرس ابنه القانون ويصبح محاميا. لكن فيلليني الابن كان له رأي آخر: لقد استهواه السيرك والرسم منذ الصغر وخاض الكثير من المتاهات في حياته صبيا وشابا باحثا عن هوية محددة لما يريد. في السابعة عشرة من عمره نزح إلى مدينة فلورنسا، حيث عمل رسام كوميكس في إحدى الصحف، ومنها إلى روما حيث مارس العمل نفسه، بالإضافة إلى تحرير محاضر المحاكمات كصحافي. وهناك رابط بين ولعه بالرسم الكارتوني وبين شخصياته الحية التي صورها في ما بعد على الشاشة.
عمل مع المخرج ذي النفحة الواقعية روبرتو روسيلليني في «روما مدينة مفتوحة»، عام 1954، وكان ذلك أول احتكاك له بالسينما. في سنة 1948 مثّل مشهدا من أحد جزءي فيلم «الحب» لروسيلليني وعنوان الجزء «المعجزة» كما كتبه. وبعد ذلك ببضع سنوات شارك خلالها ألبرتو لاتوادا إخراج فيلم بعنوان «أضواء المنوعات»، أخرج فيلليني أول فيلم كامل له هو «الشيخ الأبيض» الذي كان قد كتب السيناريو له ورغب المنتجون في البداية في إسناد إخراجه إلى لاتوادا أو مايكلانجلو أنطونيوني، لكن فيلليني أصر على أن يخرجه بنفسه. منذ البداية استوى فيلليني على عرش خاص به، وتميّز بأسلوب مبدع وخصائص في الشكل لم تتوافر عند أحد من رفاقه.
* قطار المهرجين
* هناك استعراض كبير للوجوه والأشخاص في كل فيلم من أفلام فيديريكو فيلليني. بعض تلك الاستعراضات تتميز بشخصيات مهذبة أقرب إلى الحياة الحاضرة (كما في «تدريبات الأوركسترا»، 1978)، لكن معظمها كناية عن شخصيات تبدو غريبة ومجنونة ومثيرة للخوف أو للضحك أو للاثنين معا.
إذ بدأ فيلليني الرسم الكارتوني يستطيع المرء سريعا وببساطة أن يجد العلاقة بين تلك الهواية الأولى التي احترفها في الصحف في ما بعد، والكيفية التي يقدم فيها نماذجه من الشخصيات، فهي أيضًا تماثل الرسومات في غرائبيتها وعدم واقعيتها. لكن الأمر في مدلولاته ليس مجرد استكمال معين لولع سابق، وليس مجرد انتقال ذلك الولع من وسط فني إلى آخر، بل هناك الكثير من الأسئلة التي تثيرها تلك الشخصيات الغريبة التي يقدمها لنا: من هم هؤلاء؟ لماذا يثقلون على كاهل فيلليني؟ كيف يستطيع أن يلتقط معانيهم؟ أين يجدهم وماذا يريد منهم؟
في «فيلليني: مفكرة مخرج» (كتاب حكى فيه عن ذاته) يقول حول شخصياته:
«نعم، أعلم أن الأمر يبدو مشينا وقاسيا، لكني كثير الإعجاب بكل هذه الشخصيات التي تطاردني. تتبعني من فيلم إلى آخر. كلها شخصيات مجنونة إلى حد. تقول إنها بحاجة إليّ، لكن الحقيقة أنني بحاجة إليها أكثر. إن قيم شخصياتي الإنسانية كثيرة، وفيرة، كوميدية وأحيانا مشوقة».
إذن هناك علاقة وطيدة بين فيلليني وتلك الشخصيات «المجنونة قليلا» التي يقدمها. هناك، كما يمكن أن نستنتج ليس من هذا الحديث فقط بل أساسا من أفلامه، شغف كبير بها: الفتى السمين، المرأة القبيحة، الأنثى اللعوب، الفنان أو المثقف الباحث عن هويته، الأزواج المحبطين، الأقزام، ذوي الوجوه النحيفة، ذوي العيون البارزة، وكل شكل يمكن لك أن تتخيله.
هذا جلي في «ساتيركون»، «روما»، «السفينة تبحر»، «كازانوفا»، أو «مدينة النساء» وسواها حيث تقطع الكاميرا على تلك الشخصيات الكارتونية شكلا في لقطات كثيرة. أحيانا في مشاهد طويلة وهم كثيرا ما يتطلعون إلى الكاميرا في حديث مباشر غالبا ما ينتهي بضحكة. هم - شكلا على الأقل - مهرجون يتجاوزون العدسة وينظرون إليك بالعين كما لو كنت حاضرا. وحضورك مزدوج: على الكرسي الذي جلست عليه لتتفرج، ومن خلال الشخصية «العاقلة» الوحيدة التي تمر بين كل هؤلاء. هذه الشخصية قد تكون فتى ساذجا يبحث عن حياة أفضل من تلك المحيطة به (ساتيركون) أو رجلا عاديا كان يحلم في قطار (مدينة النساء) أو صحافيا على ظهر سفينة (والسفينة أبحرت).
* كاريكاتيرية فقط
* هذا الحضور الثاني غالبا ما هو الحضور البريء وسط هذا الجمع من الشخصيات ذات الوجوه المطلية الغريبة أو الأجساد غير الطبيعية.. إنما غير المشوهة. وبعض هذا الحضور هو وجود فيلليني نفسه في نهاية المطاف، فإذا كان يلاحق شخصياته ويصورها باهتمام عاكسا شغفه التام بها فإنه من الطبيعي أن تكون بعض تلك الشخصيات البريئة التي تدور في الوسط هي تلك التي تعبر عنه، ونحن الذين لا نعلم الكثير عن حياته الأولى (بقيت غامضة في الكثير من أجزائها) يمكن لنا أن نتلقف شيئا عن ماضيه من خلال مراقبتنا لبعض علاقاته بتلك الشخصيات خاصة لناحية تصويره للمرأة في معظم أفلامه ووضعها في أنماط «كاريكاتيرية» متعددة اضطر في النهاية إلى أن يجمعها معا ويضعها في «مدينة النساء» بحيث صارت لدينا نماذج وأنماط المرأة الفاتنة، المرأة القوية، المرأة ذات الحاجات الجنسية النهمة وكثيرات أخريات معظمهن يعكسن شعورا داخليا لدى بطل فيلليني أو فيلليني نفسه بالخوف منهن.
لكن كما لاحظ الناقد ديفيد تومسون في كتابه «القاموس النقدي للسينما»، تخلو أفلام فيلليني من بناء الشخصيات. بكلمات ذلك الناقد أن فيلليني ليس لديه شخصيات بالمعنى الدرامي الكامل أو التجسيدي. يقول إنها «ليست شخصيات بل كاريكاتير فقط». في هذا نصيب كبير من الصحة. وأتساءل بدوري إذا ما كان فيلليني قادرا على أن يبتدع شخصية حقيقية ما. بالتالي أن يجسد شخصا له أبعاد أفراد فرانشيسكو روزي أو مايكلانجلو أنطونيوني. لكن إذا ما كان فيلليني قادرا على أن يفعل ذلك فإنه قادر - بطبيعة الحال – على أن يسرد حكاية الفيلم بطريقة عادية أو مألوفة، وهو ما لم يفعله إلا في حالات نادرة ومبكرة في حياته الفنية (الشيخ الأبيض).
يبقى أن رسوماته - شخصياته ما زالت تحمل في ثناياها الكوميديا الخفية. أحيانا السخرية أو ذلك اللون منها الذي أتقنه المخرجون الإيطاليون أكثر من غيرهم. وهذا ما يساعد على اعتبار نماذجه المتعددة مجموعة من المهرجين احتشدوا في قطار كل عربة منه تحكي قصة مختلفة.