إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

صفيح لبنان الساخن

ثمة من يقول اليوم إن تحرّك منظمات المجتمع المدني في لبنان مؤشر إلى سقوط الطبقة السياسية الحاكمة فيه. غير أن كلامًا كهذا يفتقر إلى الدقة. ذلك أن الطبقة السياسية اللبنانية سقطت منذ زمن بعيد، وما كان هذا الواقع بحاجة لبضع مئات أو ألوف من الشباب المُحبَطين، وأيضًا من المدفوعين والمشبوهين، أن يثبتوه في ساحات بيروت وشوارعها.
ثم إن المشكلة الفعلية ليست «قضية الزبالة» (النفايات) التي فجّرت الأوضاع. فأزمة الزبالة ليست «بنت ساعتها» كما يقال. وفي غياب استراتيجية بيئية جدّية لا يصح تحميل الحكومة الحالية العرجاء وحدها المسؤولية عنها. ثم مَن قال إن الزبالة هي المشكلة الوحيدة التي أدى عجز السلطة وإفلاس الطبقة السياسية إلى تفاقمها؟ ذلك أن كل لبناني صادق مع نفسه يعلم أن أزمة الكهرباء كارثة، وتداعي النظام التعليمي والتسابق على فتح دكاكين الشهادات الجامعية التي تخرج آلاف الجهَلة كارثة، والانفلات الأمني وفوضى السلاح كارثة، والفساد بمختلف أشكاله وأنواعه والضالعين به كارثة، وتنامي التعصب الديني والمذهبي كارثة، وأزمة بطالة الشباب وهجرة العقول والكفاءات كارثة.
كل هذه المشاكل تفاقمت وتتفاقم ولكن منذ عقود. منذ سقطت «الجمهورية الأولى» (1943 - 1975) وقرّر لاعبون إقليميون ودوليون منع قيام «الجمهورية الثانية» ولبنان يترنّح من أزمة إلى معضلة، ومن معضلة إلى محنة. ومع هذا كان سلاح اللبنانيين الوحيد في وجه هذا الواقع.. تجاهله والهروب منه.
اليوم تصدق على لبنان الكناية البلاغية الغربية «الفيل داخل غرفة المعيشة»، التي تعني التجاهل المتعمد لوجود حقيقة واقعة وساطعة.. لا يريد أحد الاعتراف بها أو يجرؤ على التكلّم عنها.
كان هذا جليًا عندما تعمّد الشباب المتظاهرون الذين نزلوا إلى الشارع منذ الأسبوع تغييب صورة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن لافتة ساخرة جمعت صور الزعماء اللبنانيين الذين حمّلهم المتظاهرون مسؤولية الأزمة الراهنة، واختاروا بدلا منه أحد وزراء حزبه في الحكومة. وتكرّر الأمر أمس.. ونشب عراك عندما حاول البعض وضع صورة نصر الله بين الزعماء المتّهمين الملومين!
طبعًا، يضاف إلى هذا الاستثناء، البعيد عن «المثالية» المطلبية، مطالبة المتظاهرين باستقالة رئيس الحكومة وحكومته. وهذا، كما يدرك المتظاهرون جيدًا، مطلب سياسي مزمن لفريق لبناني، مرجعيته خارجية، يبتزّ باقي الأفرقاء ويعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، لأنه يصرّ على فرض مرشحه بقوة السلاح.
«الفيل» الضخم الذي لا يريد المتظاهرون الشباب أن يروه أو يقرّوا بوجوده هو.. حزب الله.
هذا الحزب يعتبر نفسه اليوم - وفق أمينه العام، بكل صراحة - «فريقًا» و«طرفًا».. وليس «وسيطًا» بين القوى المتنافسة في الساحة السياسية اللبنانية، مع أنه نفسه كان وما زال يصرّ منذ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 على القول إن سلاحه «سلاح مقاومة»!
على هذا الأساس، كيف يظل هذا السلاح فوق المساءلة إذا كان حامله يعتبر نفسه حليفًا لهذا وخصمًا لذاك؟ وكيف يجوز القبول ببقاء هذا السلاح الذي استُخدم بالفعل - كما حصل عام 2008 - داخل لبنان وضد خصوم الحزب اللبنانيين، ولاحقًا استُخدم وما زال في الحرب السورية من دون موافقة السلطة الشرعية اللبنانية التي يتمثل فيها الحزب بوزراء، ويسهم في تعيين قادة عسكريين وأمنيين فيها جزء من ولائهم - على الأقل - له أولاً؟
ثم إن حزب الله، أيضًا على لسان أمينه العام، يتبع «الولي الفقيه» الموجود في إيران، أي أن مرجعيته الرسمية غير لبنانية، وهي حتمًا ليست الدستور اللبناني. أضف إلى ذلك أنه لا يلتزم بالسيادة اللبنانية ولا يكترث بالمؤسسات الشرعية، بدليل أنه يقاتل خارج حدود لبنان من دون أخذ موافقة الدولة، وتعطيه السلاح الثقيل جهات خارجية من دون إذن الدولة، ويفرض أجهزته الأمنية وبناه التحتية على الدولة بديلاً، وأجهزة وبنى تحتية موازية، لكنها ملكية خاصة له وحده.
وهكذا، بالمختصر المفيد، فحزب الله «دولة ضمن الدولة»، لكنه أقوى منها ويخترقها طائفيًا - كون الطائفة التي ينتمي إليها ويصادر قرارها بقوة سلاحه وأمواله و«خدماته» - ممثلة كباقي الطوائف في الدولة.
من جهة ثانية، لم يؤمن حزب الله أساسًا بـ«اتفاقات الوفاق الوطني» في الطائف، إلا أنه - لدواع استنسابية - أخفى طويلاً رفضه لها، تمامًا كما تراجع مرحليًا عن هدفه جعل لبنان «دولة إسلامية شيعية». غير أنه اليوم يسعى فعليا للهدفين: إسقاط «الطائف»، والتمهيد لتأسيس «دولة شيعية» تنطلق من انخراطه في مشروع «تحالف الأقليات» المطروح دوليًا.
هذا بالضبط ما يفعله الحزب اليوم. فهو يحتضن النائب ميشال عون على الرغم من تذكّره تاريخ عون السياسي من الألف إلى الياء، وإصغائه يوميًا إلى خطبه الاستفزازية الطائفية، ومع هذا يعمل على فرضه زعيمًا أوحد للمسيحيين.
عبر عون، الذي رفض «الطائف» وزجّ لبنان غير مرّة في حروب عبثية، والذي رفع ويرفع لواء العداء للسنة اللبنانيين وصولاً إلى اتهام «تياره» رئيس الوزراء تمام سلام بـ«الداعشية»، يواصل حزب الله مهمة تدمير الدولة اللبنانية وتصفيتها لسبب واضح.. هو أنه لديه «دولته» البديلة.
لقد هجّرت «حروب» الحزب وتابعه المسيحي - ومعه حليفه النظام السوري - خلال السنوات الفائتة مئات الألوف من الكفاءات اللبنانية، العديد منها إلى غير رجعة، كما دمّر الحزب البنية التحتية الاقتصادية، وحرم البلاد الاستثمارات الخارجية، وعطّل أي دور إقليمي خدماتي واقتصادي وتنموي يمكن أن يلعبه لبنان. ولكن على الرغم من كل هذا، ها هو يركب الموجة المطلبية الشعبية الشبابية، ويحرف مسارها لخدمة غاياته.
على شباب لبنان في هذه الساعات العصيبة التحلّي بالوعي والمسؤولية، وتجنب المساهمة في تدمير بلد يخشى أن يكون قد صدر قرار دولي بضمه إلى كوكبة «الكيانات الفاشلة» في الشرق الأوسط تمهيدًا لوضعها تحت «الانتداب» الإيراني.
باختصار، عليهم ألا يكون نسخة عصرية عن أسرة بوربون في فرنسا، عندما قيل فيهم: «لم يتعلموا شيئًا ولم ينسوا شيئًا»!