د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

إردوغان: منتهى البراغماتية المُقنعة!

أجمع مراقبو منطقة الشرق الأوسط على أن الاتفاق الأميركي التركي الأخير، إنما يشكل تحولاً نوعيًا مهمًا بالنسبة إلى الأزمة السورية والمنطقة ككل. ولكن اللافت للانتباه والجدير بالتفكير فيه مليًا هو أن مثل هذا الإقرار بالتطور النوعي، لم يُعبر عنه أصحابه من دول وأطراف مختلفة بنبرة تعكس فرحًا سياسيًا أو رفضًا؛ فالغالب على المواقف الحياد والإيجابية الباردة.
قد يكون ذلك بفعل الصدمة من الانقلاب النوعي في الموقف التركي، وأيضًا في حصول هذا الانقلاب النوعي بسرعة شديدة، أي أنه دون مقدمات تمهدُ له أو تلوح به. دون أن ننسى أن هذا الاتفاق قد أُبرم وسط تعقيدات وسينفذ على وقع خلافات صريحة. وهو من ثم، يكون مفتوح النتائج؛ وذلك باعتبار أنه انقلاب كبير في الموقف التركي العام من التنظيمات الإرهابية يضم في جوفه - أي الموقف العام - مجموعة من الانقلابات الأخرى الاضطرارية، التي غير معلوم ردود فعل المنقلب ضدهم، وعلى رأسهم جبهة «النصرة» مثلاً.
بصراحة إنه تحول نوعي سريع ومفاجئ. ورغم كل أهميته فإنه من الصعب تحديد تأثيراته على الأزمة السورية والمنطقة. وهو صعب على الجميع دون استثناء، بمعنى آخر ليس واضحًا من سيكون الرابح والخاسر من مثل هذه الخطوة النوعية، التي بالضرورة ستتضارب وتتقاطع في الوقت نفسه مع مصالح الأطراف المحركة والفاعلة في الأزمة الرّاهنة.
إذن نحن أمام منعرج كبير في المنطقة، يُنظرُ إليه بعين المجهول.
طبعًا لا شك في أن ما وُصف بالتحول النوعي في الموقف التركي من تنظيم داعش، له ما يُبرره وما يُشرعه؛ ذلك أن تركيا لم تشارك في التحالف الدولي ضد «داعش» وظلت تراقب وكأنها غير معنية بمجازره. وإذا ما أردنا الصراحة فإن تركيا لعبت دورًا خطيرًا في تقوية تنظيم داعش، حيث لا يخفى على أي دولة أنها كانت بمثابة المعبر لمرور المنتدبين الدواعش، أي أنها راهنت بشكل أو بآخر على ما يمكن أن يحدثه هذا السرطان الإرهابي من تغييرات فوق أرض المعركة، يتمُ استثمارها سياسيًا؛ لذلك كان الصمت يلف الموقف التركي والحياد السلبي إزاء الأصوات المتعالية المندّدة والمحذرة من تنظيم داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى.
والظاهر أن الحادث الإرهابي الذي عاشته مدينة سورج التركية وسقوط 30 مواطنًا تركيًا قتلى قد أيقظ تركيا أخيرًا من حيادها الظاهر لتنضم إلى مجموعة الدول المحاربة لـ«داعش». وبذلك يكون الحادث الإرهابي المشار إليه بمثابة السبب المباشر للتحول النوعي في الموقف التركي من تنظيم داعش ومن التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وتكمن المشكلة في هذه الجزئية في أن الحوادث الإرهابية كانت كثيرة ومتوحشة ومتواترة وقد عاشتها تونس والمملكة العربية السعودية ومصر واليمن والكويت وفرنسا... وكلها أحداث من الوزن الثقيل ولكنها لم تؤثر في الموقف التركي السابق، ولم تجعله يعيد حساباته، بل إن موقف الحياد الظاهر وعلم غالبية الدول بوجود أصابع تركية وراء توسيع قاعدة أنصار «داعش»، قد جعلاها شبه معزولة في خصوص الحرب على التنظيم الإرهابي.
ولم يكتف التحول النوعي بمستوى الإجراءات المتخذة فقط، بل شمل أيضًا الخطاب التركي الرسمي، حيث صرح إردوغان على أثر الحادثة الإرهابية الأخيرة بأن تنظيم داعش يمثل تهديدًا لتركيا وللمنطقة. وفي السياق ذاته ذكر داود أوغلو أن الخطر الذي يُشكله «داعش» يأتي في صدارة الأجندة!
إن المؤكد اليوم هو أن مسألة انضمام تركيا للحرب على التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، خطوة إيجابية جدًا، حيث إن تركيا قادرة إذا ما أخلصت النية على تقديم مساهمة مهمة جدًا، خصوصًا أنها تمتلك استخبارات قوية وملمة بالكثير من تفاصيل تنظيم داعش وأسراره، إضافة إلى أن مجرد الانضمام يعني بالنسبة إلى «داعش» إحكام الحصار ضده.
إننا نسلك هذا المنحى في الفهم ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الحادث الإرهابي الذي عرفته تركيا أخيرًا ليس أكثر من سبب مباشر لحدوث تحول في الموقف التركي، أي أن هناك أسبابًا أكثر أهمية وقوة، تتمثل في الضغط الأميركي المتواصل على تركيا، وأيضًا الاتفاق الذي أبرمته إيران ومجموعة «5+1» الذي قرأته تركيا قراءة خاصة جدًا، رغم أنه أقل بكثير من السقف الأدنى لطموحات إيران.
إن سماح تركيا لقوات التحالف باستخدام قاعدة إنجرليك لضرب «داعش» إنما يمثل نتاج مجموعة من الأسباب القوية، التي حتمت على تركيا تغيير الاستراتيجية والتغاضي عما حصل للإخوان في مصر ومسألة دعم الدول العربية والإسلامية سقوط الإخوان.
الآن هناك أسئلة كثيرة مفتوحة على مصراعيها: هل النجاح في القضاء على التنظيمات الإرهابية في سوريا يشكل حلقة تمهيدية للقضاء على نظام الأسد، أم أنه خطوة تصب في صالح الأسد ويمكن أن تجعله أكثر سيطرة؟ وأيضًا نتساءل عن دور إيران فيما سيحدث في صورة نجاح قوات التحالف في تقليم أظافر «داعش».
أغلب الظن أن تركيا حاليًا في منتهى البراغماتية المقنعة، وأنه تحركها حسابات جديدة.