يبدو وضع أسواق تداول الأوراق المالية في الصين حرجا، لكن تظل الصين مثل صخرة صماء بالنسبة إلى الشركات الأميركية التي تتوق إلى النمو. وفي ظل عدم استغلال الطبقة الوسطى، الذي يقدر أن يصل عدد أفرادها إلى أكثر من 850 مليون بحلول عام 2030 بعد اتخاذ بعض الإجراءات، من الصعب تصور كيف يمكن للمؤسسات التجارية التمتع بنمو عالمي على المدى الطويل دون وضع استراتيجية لاختراق الصين. وبحسب مجلس الأعمال الصيني - الأميركي، تمثل الصين سوقا قيمتها 300 مليار دولار على الأقل بالنسبة إلى الشركات الأميركية. لذا ليس من المستغرب بالنسبة إلى 93 في المائة المتأرجحة من الشركات التي فحصها المجلس، أن تكون الصين من بين الدول الخمس الأولى المستهدفة، بل وتمثل أولوية كبيرة جدا بالنسبة إلى 22 في المائة.
ولم تعبر سوى شركات قليلة عن تحمسها للصين ومنها «أوبر»، التطبيق الخاص بسيارات الأجرة، والذي يعد أحدث الصيحات في المدن في مختلف أنحاء العالم، حتى في الصين. وجاء في رسالة بعثها مؤخرًا بالبريد الإلكتروني ترافيس كالانيك، الرئيس التنفيذي للشركة «تمثل الصين الآن أكبر دولة خارج الولايات المتحدة الأميركية، وطبقا لخريطة النمو الحالية من المرجح أن تتفوق على الولايات المتحدة قبل نهاية العام». وطبقا لمعلومات وردت في الرسالة ذاتها، كانت مدينة تشنغدو الصينية وحدها أكبر بمقدار 479 مرة من مدينة نيويورك من حيث رحلات «أوبر» بعد مرور الشهر التاسع على إنشائها.
وفي الوقت الذي يوجد فيها اختلاف بشأن الأرقام، حيث يتم التشكيك في تقديرات الشركة لعدد رحلاتها والتي قالت إنه وصل إلى مليون رحلة يوميا، هناك تأكيد على احتمال تحقيق «أوبر» لما يبدو مستحيلا، حيث اخترقت السوق الصينية بصفتها شركة تكنولوجيا في مجال جمع بيانات المستهلك. على الجانب الآخر، ابتعدت شركات البيانات التقليدية العملاقة «غوغل»، و«تويتر»، و«أمازون»، عن الصين، أو تبذل جهدا كبيرا من أجل الصمود. الأطراف الفاعلة، التي تمكنت من شق طريق لها داخل البلاد، كانت من الشركات التي تعمل في مجال المكونات المادية مثل «سيسكو» في «بي 2 بي»، و«آبل» بما تقدمه من هواتف تتمتع بشعبية كبيرة. وحتى هذان اللاعبان يواجهان ريحا عاتية معرقلة وهما يدخلان في مجال جمع البيانات، حيث تم حذف كل من «سيسكو» و«آبل» من قائمة الشركات المقدمة للتكنولوجيا التي تقرها الحكومة الصينية بعد تسريبات إدوارد سنودن بشأن اختراق وكالة الأمن القومي لبيانات من شركات تكنولوجيا وشركات اتصالات أميركية.
وسيمثل التخلي عن السوق الصينية لصالح الشركات الرقمية الأميركية العملاقة فرصة ضائعة كبيرة. وليست الصين فقط أكبر سوق إنترنت، بل هي الأسرع أيضا من حيث التطور الرقمي بين الـ50 دولة التي قمنا بدراستها وإدراجها. وينبغي أن يكون السؤال الطبيعي الذي يطرحه كل رئيس تنفيذي لشركة تكنولوجيا هو كيف تسلقت شركة «أوبر» سور الصين الرقمي العظيم. وما الذي اكتشفته وأخفقت شركتا «فيسبوك» و«غوغل» في اكتشافه؟ لقد اخترقت «أوبر» الاحتياطي العميق لحاجة لم يتم تلبيتها وهي أن متطلبات أنظمة النقل تزداد في المدن الصينية التي تتطور سريعا، كما أن هذا هو الحال أيضا في الدول الأخرى، وأن نظام السيارة الأجرة الحالي على نطاق مترامي الأطراف، ويقدم تجربة غير مرضية للمستهلك. على الجانب الآخر، يستخدم المستهلك الصيني لـ«أوبر» الهواتف المحمولة لأغراض متعددة، لذا تمثل فكرة استخدام تطبيق لتحديد موقع سيارة، أو سيارة أجرة، تقدم خدمة أفضل، تغيرًا وانتقالا يسيرًا. ورغم ذلك، لم تكن رحلة «أوبر» في المملكة الوسطى يسيرة وسلسة، فإضافة إلى اقتحام السلطات لمكاتب الشركة في مدينة كوانزو، وإلى الاحتجاجات الكثيرة التي ينظمها سائقو السيارات الأجرة المحليون، هناك عمليات احتيال من خلال «رحلات» مزيفة بنية الحصول على مساعدات «أوبر» الكريمة، والحظر من «وي شات» التي تعد أشهر منصات رسائل. وهي بذلك عالقة في صراع على حصة في السوق في ظل ائتلاف تم إنشاؤه حديثًا مكون من شركات منافسة سابقة باسم «ديدي كوايدي». وكل هذا يجعل من اختراق «أوبر» للسوق أمرًا مميزا. وأنا أعزو نجاحها هذا إلى خطة من ثلاث خطوات.
* الوصول إلى السكان المحليين
* بدأت «أوبر» عملها في الصين خلال شهر فبراير (شباط) 2014 من خلال مؤسسة «يوبو» التي ترجمت إلى «خطوة ناجحة نحو الأمام». وكانت بمثابة مدخل في متناول اليد للإفلات من الرقابة. وجاء بعد ذلك «أوبر إكس»، و«بيبولز أوبر»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2014 كمؤسسة لا تهدف للربح. وتم الإبقاء على الأسعار منخفضة مع التركيز على تمكين الاقتصاد المحلي المتمثل في المشروعات الرائدة التي تزداد ولاء لـ«أوبر». وتم تحقيق ذلك من خلال مساعدات كريمة للسائقين بتمويل من برامج تمويل المشروعات في «أوبر».
وباستثناء المستفيدين من الإبقاء على الأوضاع كما هي عليه، ومسؤولي التنظيم المحللين، كان الجميع سعيدا وراضيا، حيث حصل المستهلكون على خدمة أفضل بسعر أقل، وحظي السائقون بفرصة إقامة مشروعاتهم الصغيرة. وكانت هناك ابتكارات أخرى تكمل مشروعات رائدة أخرى مثل عرض «أوبر» لتقديم «رحلات مجانية» لعملاء شركة التجارة الإلكترونية «كاولا دوت كوم» الذين سيحصلون أيضا على عينات مجانية لمنتجات الموقع. وتتمثل الاستراتيجية في أنه رغم شعور الحكومات المحلية، وسلطات الحكم المحلي، بالضيق والانزعاج، بمجرد أن يصل الدعم الموجود داخل نظام المستهلكين، وأصحاب المشروعات الرائدة حديثي العهد، إلى الكتلة الحرجة، سيصبح من الصعب إعادة الجني إلى المصباح مرة أخرى.
* الرقص مع عملاق
* يوجد في الصين ثلاث شركات عملاقة في مجال البيانات وهم «بايدو»، و«علي بابا»، و«تنسينت». وتنبع نقاط قوة بايدو من مخزون البيانات التي تستند إلى بحث المستخدم، ولدى «علي بابا» بيانات بشأن المشتريات على الإنترنت، والائتمان، والمدفوعات، في حين أن عمق «تنسينت» يكمن في البيانات الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي. ويقضي مستخدمو الهواتف المحمولة الصينيون 60 في المائة من وقتهم في استخدام تطبيق من إحدى تلك الشركات. وفي الوقت الذي تتمتع فيه كل واحدة من تلك الشركات بنقاط قوى رئيسية، تشهد أسواقها تحولا بمرور الوقت. وتمتلك اثنان من الثلاث شركات حصة في مجال السيارات، وهما «كوايدي داتش» المدعومة من «علي بابا»، و«ديدي داتش» المدعومة من «تنسينت»، اللتين اندمجتا لتصبحا «ديدي كوايدي» العدو الأكبر لـ«أوبر» وهو ما يترك «بايدو» وحيدة دون شريك في الرقص. والحل هو أن تستثمر «بايدو» في «أوبر»، وتروج لها على خرائطها، ومنتجات البحث عن طريق الهاتف. وإضافة إلى منح «بايدو» ميزة تنافسية في مواجهة خصميها الرئيسين، «علي بابا» و«تنسينت»، تساعد عملية الدمج «أوبر» في الاستفادة من العلاقات السياسية الناتجة عن العلاقة مع أحد العمالقة الثلاثة.
* تقبل السلطة
* في النهاية لا يمكن لوصفة للنجاح في السوق الصينية أن تكتمل إلا بوجود خطة للتعامل مع المصدر الحقيقي للسلطة السياسية وهو الحكومة الصينية. ومع اندلاع احتجاجات سائقي السيارات الأجرة في الكثير من المدن الصينية، أقرت «أوبر» مؤخرا بالتزامها بالحفاظ على السلم الاجتماعي من خلال استخدام نظام التموضع العالمي في تعقب سائقي السيارات، ومعرفة مواقعهم بالقرب من الاحتجاجات، وإلغاء عقودهم مع الشركة في حال كانوا قريبين من الاحتجاجات، وهو ما يمثل مؤشرا قويا يطمئن الحكومة بأن ما تمتلكه الشركة من بيانات يمكن استخدامه في تحقيق أهداف الدولة المتمثلة في الحفاظ على السلم الاجتماعي.
بإيجاز، يمكن القول إن «أوبر» تتبنى استراتيجية تقديم حوافز لحاملي الأسهم الرئيسين وهم المستهلكون، وأصحاب المشروعات الرائدة، والأطراف الفاعلة في القطاع الخاص، والدولة. وتهدف كل مجموعة من الحوافز إلى تلبية احتياجات آخرين أيضًا. لذا وعلى خلاف كل الحسابات، أثبتت شركة «أوبر» أن الدولة التي تم الفوز بها يوما من خلال «قفزة كبيرة» يمكن الفوز بها من خلال «خطوة ناجحة نحو الأمام». ولا يعد النجاح في حقيقية الأمر خطوة واحدة، لكنه يتكون من عدة خطوات يتم التنسيق بينها. إنها رقصة لم يجدها سوى قلة ممن يعملون في فرع «أوبر» في «سليكون فالي». وسيكون من الجيد بالنسبة إليهم دراسة التحركات، ومعرفة أي من تلك التحركات هم مستعدون لمحاكاتها، أو التكيف معها، أو التخلي عنها.
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»