فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

وإن سمع سيد قطب «الموسيقى الكلاسيكية»؟!

لم يكن الإرهاب الديني وليد اليوم، ولم تكن أحداثه منحصرة على هذه الحقبة من التاريخ، غير أن التفسيرات حوله وضمنه وتجاهه مطالبة باستمرارية التجدد. بنية الإرهاب الديني تختلف عن الإرهاب الآخر المافيوي، أو العرقي، أو السياسي، والإرهاب الديني المسيحي له سياقاته وظروفه وممهداته وإجراءاته، وكذلك الإرهاب اليهودي، بينما الإرهاب المنبعث من الديار الإسلامية، أو من المنتمين إلى ثقافاتٍ ودولٍ إسلامية هو ما يعنينا لنحلله ضمن ظواهره وتجلياته وآثاره وذرواته.
من الطريف أن الإرهاب يوشك أن يكون «علْما» ومجالاً ممتد الفروع، له جوانبه وإجراءاته المتوزّعة على التخصصات. ومن هنا يكون الفرق في «التفسير» الذي غالبًا ما يراد له أن يكون واحدًا وذلك تبعًا للعقلية «المعيارية» السائدة في مجالات التوصيف والدراسات، بغية البحث عن «البعد الواحد» لأي ظاهرة كانت. والأخطر حين يكون التوصيف ذو البعد الواحد بعيدًا عن جذور متشعّبة يجمعها التفكير الحادّ المعيّن ضمن أدبيات وتبويبات فقهية محضة.
موجة الإرهاب التي حدثت عندنا وبلغت الذروة في 2003 كانت موضع توصيفاتٍ وصلت حد الغرائبية لجهة إبعاد النجعة عن الوصف العمومي له، فلم يعتقد البعض أن هذه الحالة ذات طابع فكري شامل، بل ذهب كثر إلى إدراج موضوعات «المرض النفسي» أو «الكبت» أو «التمييز الاجتماعي»، لكن ظاهرة الإرهاب نفسها بتجدد أساليبها هي التي تفضح وتكشف سطحية تلك التحليلات. هناك فرق برأيي بين تحليل الظاهرة عمومًا بوصفها الحدث الاجتماعي ذا الدوافع والظروف والسياقات المتعددة، وبين الحديث عن الشخصية الإرهابية بعموم تاريخها ونشأتها، والإغراق في وصف الحالة الاجتماعية للفرد الإرهابي لا يفيدنا كثيرًا في فهم الظاهرة ولا الشخصية بوصفها «إرهابية» في الغالب.
لم تضف مثلاً معلومة أن زعيم تنظيم القاعدة في السعودية عبد العزيز المقرن كان «حارس مرمى» في فريق كرة القدم بين أصحابه! وعليه فإن الإغراق بالتوصيف الفردي قد يكون مفيدًا للكاتب نفسه حين يبحث في ألغازٍ تتعلق بشخصياتٍ أثارت الدم والقتل واستنزفت الطاقات وهرع العالم باحثًا عنها للقبض عليها لمحاكمتها أو القضاء عليها، لكنها لا تضيف حيثية للتحليل ولا تسعف المتأمل في الأفكار الإرهابية، وبالتالي فهي معلومات تكون موضوع اعتضاد كتابي أكثر من كونها آلية اعتماد تحليلي.
لروانس رايت في كتابه «البروج المشيّدة - القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر» تحدّث عن ظروف نفسية واجتماعية ودنيوية حياتية لجمع من القادة الأصوليين في العالم الإسلامي، من بينهم بن لادن، والظواهري، وحسن البنا، وكان لافتًا الإغراق في المعلومات الأولية عن حياة سيد قطب قبل أن يتخذ من المفاصلة الاجتماعية حلاً لإقامة الدين والشريعة وإعلان جاهلية القرن العشرين، ويعيد هذا المناخ الأصولي الانعزالي القطبي إلى الطفولة ومن ثم الشباب، حيث الإقامة في أميركا، وجعل أساس الانعطافة في حياة قطب تلك الثمانية أشهر في كاليفورنيا حين شعر بالوحشة من «الجسدية والروحية» لينسحب من الدروس التي التحق بها، وليتغير من بعد خطابه إلى أصدقائه. ثم يسرد كيف كان الشاب مهتمًا باللباس، ومغرمًا بالموسيقى الكلاسيكية وبأفلام هوليوود، وقرأ لأينشتاين وفي نظرية «التطور» لتشارلز داروين، وفي الأدب اطلع على فيكتور هوغو. ويضيف رايت: «كان سيد قطب قلقًا من الاجتياح الحضاري للغرب». قرابة عشرين صفحة خصصها رايت عن هذه الطبيعة لسيد قطب والانعطافات وبحسب ما يذكر في خاتمة الكتاب أن المعلومات حول قطب استقاها من أخيه محمد قطب الذي لم يبخل على المؤلف بالمعلومة.
إذا كنا سنتحدث عن شخصية الإرهابي بطريقة السرد العادي ليومياته قبل أن ينخرط في التنظيمات فإنك ستردد ما يجمع الناس الطبيعيين في يومهم المعتاد، مثل لعب كرة القدم، أو مشاهدة فيلم هوليوودي، أو قراءة رواية معينة، أو الشغف بكاتبٍ ما، هذه أمور يفعلها مئات الملايين من البشر يوميًا، ربما المفيد في نهاية المطاف ذلك التحوّل والهجران للأمور المباحة من يوميات التسلية إلى «الوحشة» ومن ثم الانفصال عن المجتمع ومباشرة التنظير للعنف أو ممارسته، لكن بالمحصّلة الأخيرة فإن الفكر الذي يبنى في الكتب والرؤى والتنظيمات والتفاسير للشرائع والنصوص هي نتاج الفكر بكل تشعّباته وعوامله وأدبياته، الجامع بين التنظيمات والانضواء حولها سواء لدى «القاعدة» أو الإخوان المسلمين أو «داعش» هو المجال الفكري بأبعاده المتعددة في الفقه والنظرة للغرب وآيديولوجيا الكفاح للغرب، ومفاصلة المجتمع، وسواها من النظريات التي تشكّلت على أطوار، من مفهوم «الحاكمية» السياسي، إلى «الجاهلية» الفكري، إلى «العزلة» الاجتماعي، وصولاً إلى «القتال» الإجرامي، وهي أفعال ضمن أفكار ولا يمكن أن تبرر وتحال إلى الموضوع النفسي.
قدّم جيرولد م. بوست كتابًا ممتعًا وهائلاً بعنوان «القادة وتابعوهم في عالم خطير - سيكولوجيا السلوك السياسي» وهو مؤسس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي في الاستخبارات الأميركية والمسؤول عن وضع الملفات الشخصية لأنور السادات ومناحيم بيغن التي استخدمها جيمي كارتر في مباحثات كامب ديفيد. الكتاب شمل تحليلاً لمجموعة من الشخصيات والظواهر، من بينها أسامة بن لادن، ولأنه عالم نفس فقد استغرق المجال منه كثيرًا من الصفحات، هذا مع إدراجه تحليلات وتفاسير لآيات ومحاولة البحث عن أسباب ومحفّزات.
تحدّث عن رأي إيميل دوركهايم في دور «الوقائع الاجتماعية» بوصفها عوامل خارجية تؤثر على القائد وكذلك عن قول ماكس فيبر في تطوير نظريته الكلاسيكية عن البيروقراطية والامتثال لنظام موحّد ومنظّم تكون هذه العوامل النفسية بمثابة دوافع ومشاعر، لكنها ليست العامل الدافع أو الصانع أو المشكّل. ثم يقرأ شخصية بن لادن مستذكرًا التهميش العائلي وبخاصة له هو بوصفه وحيد أمّه وليس لديه أشقّاء، معللاً هروب أسامة من عائلته لهذا الوضع الذي سببه الزواج والتهميش الذي لحق به من بعد. وبرغم كون هذه القراءة نفسية وضعت لأهداف استخباراتية غير أن سحبها لوضعها ضمن إجراءات ورشة التحليل الفكري وبمنزلة تصل إلى التسبيب والتعليل ليس صائبًا بكل الأحوال.
محصّلة البحث أن الإرهاب ينتج غرائبه، وهناك جمع من الباحثين والفلاسفة وعلماء النفس لديهم فضول جارف للبحث في ألغاز هذا الموضوع، ولأن الداخلين على المجال يعالجونه ويناقشونه ويفحصونه كل من أدواته ومشارطه فإن التحليلات والسرديات والنصوص ورصد الغرائب والتفاصيل تكوّن رزمًا من الصفحات وأسفارًا من الكتب لكن يجب ألا نفعّل آليات التعليل المباشر لتغليب المعاني النفسية أو المادية أو الاجتماعية أو الإخفاقات الأسرية، لأن هذه توصيفات لا تدين المكوّن الفكري ولا تضع الخطر الاستئصالي بالاعتبار، لأن المهم في التعاطي مع هذه الظاهرة أن ندين ونسائل ونحارب بكل الوسائل التي بين أيدينا هذا الفكر الإرهابي. سيد قطب لا تعنينا ذائقته القديمة لموسيقى باخ وبيتهوفن وموتزارت، بل يعنينا نتاجه الكارثي المدمّر الذي صارت صفحاته منقوشة على يافطات «داعش». هناك أبعاد كثيرة ومشاكل كبيرة منطلقها ومناخها من الفكر المنفلت الذي يجد دعاماته في المهمل من الإنتاج القديم.