علي سالم
كاتب ومسرحي مصري. تشمل أعماله 15 كتابا و27 مسرحية أغلبيتها روايات ومسرحيات كوميدية وهجائية، كما نشر تعليقات وآراء سياسية خاصةً بشأن السياسة المصرية والعلاقات بين العالم العربي وإسرائيل
TT

ذكريات من يوليو

بالمقاييس السائدة في تلك الأيام من أربعينات القرن الماضي وبداية الخمسينات، أي قبل «ثورة يوليو» (أو حركة أو انقلاب أيها تفضل)، كانت الوطنية هي أن تكره الإنجليز إلى حد التحريم، وأن تبتهل إلى الله أن تتمكن القوات الألمانية من هزيمتهم. تلك القوات التي كانت على وشك دخول الإسكندرية قادمة على الساحل من الغرب بقيادة الجنرال الألماني ذائع الصيت روميل. ولأن الوطنية بطبيعتها في حاجة إلى قدر من الحواديت، لذلك اخترع المصريون عدة حواديت عن هتلر، منها أنه أشهر إسلامه وسمّى نفسه الحاج محمد هتلر. غير أن الجنرال الألماني الذي لم يخسر معركة اضطر للتراجع أمام قوات الحلفاء بقيادة الجنرل مونتغمري بعد معركة حاسمة في منطقة العلمين بالساحل الشمالي.
أريد أن أصل إلى أن الملك فاروق كان يشارك الشعب المصري كله كراهيته للإنجليز والاحتلال، كما كان يشاركه حبه للألمان والطليان. كان أقرب مساعديه إليه وخدمه وحلاّقه الخاص من الطليان. مشكلة الملك فاروق أنه لم يدرك أن انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لم يكن انتصارا لقوتهم العسكرية فقط، بل كان انتصارا لأسلوب جديد في الحياة وفي السياسة، وأن الكرة الأرضية دخلت عهدا جديدا قد يسمح بوجود الديكتاتورية غير أنه لم يعد يسمح بتمجيدها. كانت قد بدأت تظهر في الوجود على استحياء تعبيرات مثل حقوق الإنسان.
كان الملك فاروق في الإسكندرية عندما قامت الحركة/ الثورة/ الانقلاب، ووجه له قائدها اللواء محمد نجيب إنذارا يطلب منه فيه مغادرة البلاد. لكن قادة القوات المسلحة الموجودين في الإسكندرية أبدوا استعدادهم للقتال دفاعا عنه. غير أن الملك فاروق رفض ذلك، وقال: «لا أريد أن أرى الضباط المصريين يقتل بعضهم بعضا».
هذه هي بالضبط اللقطة التي قفزت على السطح في عقلي قادمة من مخزن «يوليو». لقد فهمت الآن نبل موقفه وعدم رغبته في المغامرة أو المقامرة بالجيش المصري. قل عن فاروق ما شئت، وجه له ما طاب لك من الاتهامات، غير أنك في النهاية لا بد أن تعترف بأنه كان مسؤولا حتى اللحظة الأخيرة. فعندما كانت المقاومة تمثل مذبحة لا فائدة منها قرر أن يمنعها، وأن يمضي هو إلى المنفى. من المؤكد أيضا أنه كان على يقين بأن الإنجليز ضده، وهو ما يجعل الكفة في غير صالحه. وفي الحساب الختامي لا بد أنه فكر في أنه حفيد لأسرة محمد علي، أعظم من حكم مصر في العصر الحديث، وأنه من العار أن تكون آخر لقطة له في حكم مصر مصحوبة بالعار.
ونجح شهر يوليو (تموز) في إعطاء اسمه لكل الشهور، أو على الأقل كان الجد الأكبر لأحفاده من الشهور المقبلة المليئة بالانتصارات والهزائم. هل كنا سعداء بـ«يوليو»؟ الإجابة تتوقف على من تقصد بكلمة «كنا».. أنا وأصدقائي الشبان الفقراء في دمياط كنا سعداء جدا بالقصص التي نسمعها عن الإذلال الذي يتعرض له الأغنياء وأصحاب الإقطاعيات الزراعية، غير أننا في ذلك الوقت لم نكن نعمل مذيعين في محطات تلفزيونية نشتم فيها الاقتصاد الحر ورجال الأعمال مصاصي الدماء.. وأي حد عنده فلوس.