جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

التصوير والضمير

قد تكون مبيعات الكاميرات تراجعت أكثر من مبيعات غيرها من القطع التي وهبتنا إياها التكنولوجيا وأهدانا إياها العلم والتقدم، إنما التصوير أصبح من مرادفات حياتنا اليومية.. التصوير بواسطة الهواتف الذكية التي فاقت ذكاءنا.
حياة الجميع أصبحت موثقة يوميًا لعدة أسباب؛ السبب الأول يعود إلى إجراءات الأمن والحماية من الاعتداءات الإرهابية والسرقات.. وغيرها من الأمور التي تجعل الكاميرات في الطرقات تسلط عيونها علينا، تمامًا مثل عيون الأخ الأكبر الذي يرصد تحركاتنا لإعلام أهالينا.
ولكن، في المقابل، ليست هي فقط عيون الأخ الأكبر التي تحسب خطواتنا وتسجل تحركاتنا، إنما نحن أنفسنا أصبحنا جميعًا مصورين مبدعين ننافس الفنان والمصور الإيطالي العالمي ماريو تيستينو، لأننا أصبحنا نرصد كل اللحظات في حياتنا وحياة غيرنا بواسطة كاميرات هواتفنا المتأهبة دائمًا للتصوير؛ تصوير ما يسر وما يحزن، وما يدمي القلب وينذر بأن الآتي أعظم، لأن هناك نسبة كبيرة من البشر تحولت إلى حجر.. تنظر وتشاهد الموت من وراء عدسات التصوير وكأن ما يحدث لا يهم، وما يهم فقط هو رصد اللحظة ونشرها فقط للقول: «أنا كنت هناك.. أنا التقطت الصور»، أو «أنا صورت مقطع الفيديو عندما كان أحدهم يصارع الموت».. أو «أنا من صور ذاك الرجل وهو يتعرض للضرب حتى فارق الحياة».
ما حدث في بيروت منذ أيام جعلني أفكر في الأمراض التي نعيشها ولكن لا نعرف أننا مصابون بها.. قد تكونون سمعتم بحادث المرور الذي جعل أحد اللبنانيين من فئة قطّاع الطرق يقوم بمطاردة أب لأربعة أطفال كان برفقة زوجته، وتتبعه إلى أن أخرجه من السيارة وانهال عليه بالضرب المبرح وغرز في جسمه السكين.. كل هذا على مرأى من زوجته التي نالت نصيبها من الضرب، ولم يكن لها لا حول ولا قوة، ولكن المؤسف، بل المخزي، أن شريط الفيديو الذي رصد تفاصيل الحادثة المفجعة نشر على قنوات التلفزيون وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وترى فيه التفاصيل البربرية والظلم، والظلم الأكبر هو تمكن أكثر من شخص من تصوير ما يحدث من دون أن يحركوا ساكنًا، أو يقدموا أي مساعدة، أو يخلصوا ذلك المسكين من قبضة المجرم الذي أزهق روح ذلك الأب.
هذه ليست الحادثة الأولى، ولن تكون الأخيرة، وليس لبنان البلد الوحيد الذي أصبح مسرحا لها؛ إذ حصلت في بلدان عربية وغربية أخرى، وما حصل ليست له علاقة بالجنسية، إنما هو مرآة لما آلت إليه النفسيات والعقليات التي لم تعد متصالحة حتى مع ذاتها، والأمراض النفسية التي تعشش في عقول البعض ونفوسهم، وهم لا يدرون.
شاهدت مرة شريط فيديو، لو عرفت بمحتواه قبلها لما أقدمت على مشاهدته.. كان عبارة عن شخص يائس فاقد للأمل في الحياة توجه إلى سطح مبنى ليلقي بنفسه ويتخلص من حياته، وكان هناك عدد من عناصر الأمن يتوسلون لهذا الشخص ويناشدونه عدم إلقاء نفسه.. كل هذا والكاميرا تدور وتصور، ومن هم في الشارع لم يحركوا ساكنًا إلى أن سقط المسكين، والنهاية المأساوية تعرفونها.
هل تحولنا إلى روبوتات همها الوحيد أن تلتقط المشاهد والصور وتبثها على يوتيوب؟ أين النخوة والإنسانية.. فبدلاً من أن نتحول إلى ماريو تيستينو، أتمنى أن نكون «سوبرمان» عندما تدعو الحاجة.