المقاتلون الأجانب في صف النظام السوري.. من هم؟

أكثر من أربعين ألف من منظمات متطرفة يقاتلون إلى جانب جيش الأسد

المقاتلون الأجانب في صف النظام السوري.. من هم؟
TT

المقاتلون الأجانب في صف النظام السوري.. من هم؟

المقاتلون الأجانب في صف النظام السوري.. من هم؟

كثر الكلام وكثرت التكهنات والتحليلات حول المقاتلين الشيعة الذين يقاتلون إلى جانب الجيش النظامي السوري. وبات من المعلوم أن العراقيين يشكلون عماد القوات المقاتلة الشيعية في سوريا، حيث تبقى مشاركة حزب الله اللبناني نوعية حتى الساعة. فمن هم هؤلاء؟ ما دوافعهم ومناطق وجودهم؟ وما تأثيرهم على مجريات المعارك في سوريا؟
في الوقت الراهن، يقاتل إلى جانب جيش بشار الأسد، بحسب الخبراء الغربيين، ما يزيد على أربعين ألف شيعي، استنفرهم ملالي إيران من كل مكان، شيعة باكستانيون وأفغان، حوثيون وبحرينيون، حزب الله اللبناني، كما يسمي نفسه، وأشتات شيعية من العراق، ونخبة من عساكر الحرس الثوري، التقوا جميعا على هدف معلن واحد، قتال أهل السنة في سوريا، إما بحملهم على الاستسلام، أو إجبارهم على الرحيل. في الظاهر، جاءوا لحماية «المراقد المقدسة»، واستنقاذها ممن يسمونهم «جماعات تكفيرية»، وفي الباطن يضمرون انتقاما تاريخيا، ليس له أول وليس له آخر، وأبعد من ذلك تحقيق المشروع الإيراني للهيمنة على الهلال الخصيب برمته، ومد الهيمنة الفارسية إلى عمق الوطن العربي، وإعلان قم عاصمة للمسلمين.

لم يكن وجود عناصر ومدربين من حزب الله ومن الحرس الثوري الإيراني على الأراضي السورية سرًّا على أحد، لكن هذا الوجود وبعلم الجميع أيضا لم يكن وجودا عسكريا في شكل كتائب وفصائل مسلحة رغم الضجيج الذي أثير حول هذا الموضوع، وبات المقاتلون الشيعة، وخصوصا العراقيين منهم، في طليعة القوات المقاتلة إلى جانب النظام السوري على جبهات أساسية من دمشق إلى حلب مرورا بالقلمون، ذلك انه بعد أن دخل حزب الله بقوة على خط المواجهة في القصير وريفها وفي حمص, تحولت الفرق العسكرية الشيعية من قوة دفاعية إلى قوة هجومية ضاربة تقاتل في طليعة القوات السورية النظامية. ويجب التنويه بأنه ليس لهذه المجموعات المقاتلة مشروع سياسي، بل هي ملتزمة التزاما كاملا بتوجه النظام السوري, ولا توجد نزاعات فيما بينها.
يشير الإسلامي المصري ياسر السري مدير «المرصد الإسلامي»، وهو هيئة حقوقية في لندن تهتم بأخبار الإسلاميين حول العالم، إلى تقدير خبراء أمنيين بأن عدد المقاتلين الشيعة الذين يقاتلون إلى جانب نظام بشار بسوريا يبلغ نحو 40 ألف مقاتل.
وقال السري لـ«الشرق الأوسط»: «الشيعة يجيشون وينفقون بسعة من أجل إبقاء نظام بشار؛ لأنهم يعلمون أنه بذهاب بشار سينتهي حلم إقامة كيانهم المزعوم واسترجاع أمجاد دولة آل ساسان، لذا بشار حليف مثالي، وولاؤه للشيعة الإيرانيين، فضلا عن كرهه الشديد لأهل السنة، والعمل الدؤوب على وقف المد السني في سوريا».
ويضيف: «هذه الأمور وغيرها جعلت من بقاء الأسد أمرا حتميا، وإلا ضاع حلم الشيعة من جانب، واضطربت حسابات الغرب من جانب آخر، سيما فيما يخص أمن إسرائيل ومصالح الغرب». ويوضح السري: «في حقيقة الأمر حتى الآن سقط العراق وسوريا ولبنان في يد إيران، واليمن - لا قدر الله - إذا لم يتدارك اليمنيون أمرهم في طريقه للحاق بها». ويقول السري: «إيران تستخدم ذراعها (حزب الله) لتحقيق أجندتها في المنطقة العربية، بما للحزب من ارتباط آيديولوجي بالدولة الأم لجميع الشيعة؛ إيران». ويضيف: «اليوم بات المقاتلون الشيعة، وخصوصا العراقيين منهم، في طليعة القوات المقاتلة إلى جانب النظام السوري على جبهات أساسية من دمشق إلى حلب مرورا بالقلمون. ودخل حزب الله بقوة على خط المواجهة في القصير وريفها وفي حمص». ويوضح السري: «في آخر تلك التطورات للمشروع الإيراني في المنطقة تدخل طهران في الشأن السوري ودعم نظام بشار، بالإضافة إلى دعم الحوثيين في اليمن، وإثارة القلاقل في البحرين بدعم المعارضة الشيعية». ويضيف: «أستطيع القول إن الحرب في سوريا صارت حربا مصيرية، فإما أن ينتهي وجود بشار وتعود سوريا إلى السوريين، وإما أن يقضى على الثوار لتعود سوريا من جديد إلى طور آخر من أطوار الاستبداد، لكنه سيكون هذه المرة استبدادا دمويا، لن يرحم سنيا، أو حرا طالب يوما ما برحيل بشار».
من جهة أخرى, أفادت تقديرات بأن المقاتلين الشيعة في سوريا يتوزعون على عدة فرق مقاتلة جاءت على النحو التالي:

* لواء أبو الفضل العباس
مع حلول شتاء 2012 ظهر لواء «أبو الفضل العباس» على الساحة السورية وفي منطقة السيدة زينب المتاخمة للعاصمة دمشق بشكل فرقة عسكرية عالية التنظيم والتدريب متمتعة بتسليح حديث ونوعي على مستوى الأفراد، ما يجعلها شديدة الفعالية في حرب المدن والشوارع، فضلا عن ذلك يتمتع اللواء بهيكلية وقيادة عسكرية واضحة وعلى تنسيق تام مع ماكينة الجيش السوري، وغالبية المقاتلين في صفوف اللواء هم من العراقيين وينتمون إلى فصائل مقاتلة شيعية في بلادهم، كعصائب أهل الحق وجيش المهدي.

* مقاتلو حزب الله ببنادق إيرانية
منذ أبريل (نيسان) 2013 ظهرت بعض الصور لمقاتلين إسلاميين شيعة في سوريا. وفي الوقت نفسه، بدأت مجموعة لواء أبو الفضل العباس في الظهور لأول مرة بشكل علني, وبدأ اسمها يتردد على الألسنة. وظل المقاتلون الشيعة في سوريا يظهرون على استحياء وفي مناسبات قليلة في تلك الفترة. غير أنه ومع حلول شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ظهرت الكثير من الصور لمقاتلين شيعة يحملون بأيديهم بنادق يدوية بعيدة المدى مضادة للآليات.
من المرجح أن تكون تلك الأسلحة هي بندقية HS.50 عيار 50 ملم (12.7×99 ملم) اليدوية التي تنتجها شركة شتاير النمساوية. وتقول صحيفة «تلغراف» البريطانية إن شحنة تحمل 800 بندقية من هذا النوع وصلت إلى إيران في عام 2007. لكن مدونة «براون موزيس» تقول إن الأمر الأكثر احتمالا هو أن تلك الشحنة كانت في حقيقة الأمر نسخا إيرانية من البندقية HS.50 النمساوية جرى إرسالها إلى سوريا. ومنذ شتاء 2012 لم تتوقف مواقع التواصل الاجتماعي الموالية لإيران عن الإشادة بالنسخة الإيرانية من تلك البندقية، غير أنه يجري دائما إخفاء الأرقام التسلسلية للبنادق، وهو ما يجعل من الصعب تأكيد ذلك الطرح.
وسببت صفقة بيع بنادق شتاير الأصلية قلقا كبيرا في أوساط العسكريين وصانعي القرار في بريطانيا والولايات المتحدة بسبب الخوف من تزويد «المجموعات الخاصة»، التي شكلتها إيران في العراق، بتلك النوعية من البنادق. وتشمل تلك المجموعات عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله اللتين تقومان بإرسال مقاتليهما في الوقت الحالي للاشتراك في الحرب الدائرة رحاها في سوريا.
وقوبلت بنادق القنص المضادة للآليات من ذلك العيار بترحيب شديد في الأوساط العسكرية الغربية. حيث بدأ الجيش الأميركي وعدد آخر من الجيوش الغربية في استخدام البندقية M107 نصف الآلية عيار 50 ملم. وفي أكتوبر 2012، استخدمت واحدة من تلك البنادق في قنص أحد أعضاء حركة طالبان في أفغانستان من مسافة 2.475 متر.
ويجري في الوقت الحاضر استخدام هذا النوع من البنادق في سوريا من قبل مقاتلي المعارضة والقوات الموالية للأسد على حد سواء. ورغم ذلك، ربما تشير التجهيزات الجديدة للمجموعات ذات التنظيم العالي، التي يقودها المقاتلون الشيعة الأجانب، إلى حدوث نقلة نوعية في التدريبات والتكتيكات المستخدمة على الأرض.
وتضم المجموعات، التي تستخدم تلك البنادق في سوريا، جميع التنظيمات المدعومة من إيران. ويأتي حزب الله في مقدمة تلك المجموعات، حيث يظهر مقاتلوه في الكثير من الصور وهم يحملون البنادق بأيديهم. كما نشرت حركة حزب الله النجباء التي يوجد مقرها في العراق (وهي جبهة مشكلة من كتائب حزب الله وتنظيم عصائب أهل الحق) وكذلك الميليشيات المقاتلة في سوريا، مثل لواء عمار بن ياسر ولواء الحمد، الكثير من الصور على الإنترنت تظهر أعضاءها وبحوزتهم تلك البنادق. كما نشرت أيضا المجموعات التابعة لمنظمة بدر العراقية، مثل قوة الشهيد محمد باقر الصدر وكتائب سيد الشهداء، صورا لمقاتليها يحملون البندقية HS.50. كما ظهرت صور أخرى لمقاتلين شيعة من تنظيمات أخرى لا تعرف هويتها وبحوزتهم تلك البنادق.
لكن مقاطع الفيديو التي تظهر استخدام الميليشيات الإسلامية الشيعية للبنادق من نوعية HS.50 خلال القتال في سوريا قليلة ونادرة للغاية، وعادة ما يجري نشر صور ثابتة فقط.
وكان أول فيديو جرى نشره على صفحات «فيسبوك» وموقع «يوتيوب» يظهر فيه استخدام قوة الشهيد محمد باقر الصدر، التابعة لمنظمة بدر، للبنادق من نوعية HS.50 في سوريا. كما نشرت قوة الشهيد محمد باقر الصدر الكثير من الصور عالية الجودة التي تصور مقاتليها أثناء استخدامهم لنوعية البنادق المضادة للآليات. وكانت قوة الشهيد محمد باقر الصدر قد ضمنت مشاهد - مدتها نحو دقيقة – تظهر استخدام مقاتليها للبنادق في فيلم عن أنشطة المجموعة في سوريا.
ونظرا للتدابير الأمنية عالية المستوى التي تلجأ إليها تلك المجموعات الشيعية المقاتلة، فإنه لا يجري في الغالب عرض أي معلومات عن حالات الفشل أو حتى النجاح في استخدام البندقية. كما أن صفحات الإعلام الاجتماعي، التي تديرها الجماعات الشيعية المسلحة المدعومة من إيران، لا توفر أي تفاصيل عن العمليات التي يجري خلالها استخدام البنادق في القتال في سوريا. ونادرا ما تقوم صفحات الميليشيات الإسلامية الشيعية بوصف تلك النوعية من البنادق أو الحديث عنها. ورغم ذلك، أصبحت البنادق إحدى السمات المميزة للصور التي جرى التقاطها للجنود الذي لقوا حتفهم. ورغم أن نشر الصور والفيديوهات يأتي لأغراض دعائية، فإنه ينبغي أن تؤخذ تلك القدرات العسكرية على محمل الجد من قبل جميع القوى العسكرية على المستويين الإقليمي والعالمي. وكان القناصة، الذين جرى تسليحهم وتدريبهم في إيران، قد أظهروا كفاءة قتالية عالية أثناء استخدامهم البنادق ذات العيار الأقل خلال حرب العراق (2003). ويشير استخدام بنادق القنص ذات العيار الأقل (وخاصة البنادق من نوع SVD) إلى تركيز المقاتلين على تكتيكات القنص.

* طليعة الخراساني تختبر قدراتها القتالية في سوريا
في أواخر شهر سبتمبر (أيلول)، أعلنت سرايا طليعة الخراساني عن وجودها للعالم عبر موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك». ويبدو أن المجموعة تستمد اسمها من أبي مسلم الخراساني، وهو قائد عسكري في القرن الثامن الميلادي ساعد في الإطاحة بحكم أسرة بني أمية السنية خلال حقبة الخلافة الإسلامية الأولى. وتزعم سرايا طليعة الخراساني أنها تتخذ من مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، مقرا لها. وحسب البيانات التي صدرت عن السرايا، يبدو أن نطاق عملياتها العسكرية ينحصر في المناطق الريفية الواقعة خارج العاصمة السورية دمشق.
وأعلن عن وجود سرايا طليعة الخراساني رسميا في الرابع والعشرين من سبتمبر 2013 على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، إلا أنه من الممكن أن يكون قد جرى حصر الدخول على الصفحة الرسمية للسرايا، ثم أنشئت صفحات أخرى بديلة لها، ومن ثم جرى إخفاء الإعلان المبدئي عن وجود السرايا. أما صفحة «فيسبوك» البديلة التي أعلنت رسميا عن تشكيل السرايا، فيعود تاريخ إنشائها إلى الثامن من أكتوبر 2013، وتحتوي الصفحتان على عدد من الصور النادرة التي تروج لنفس الرسائل العامة. وكما هو الحال بالنسبة للميليشيات الشيعية الأخرى، تزعم سرايا طليعة الخراساني أنها تدافع عن ضريح السيدة زينب، وتقوم أيضا بالترويج للأفكار الموالية لإيران التي تشمل الشيعة جميعا. وتغلب فكرة تمجيد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وكذلك هوية السرايا الشيعية، على الصور التي تقوم السرايا بنشرها على صفحات التواصل الاجتماعي.
وجرى نشر غالبية صور السرايا في شهر أكتوبر، حتى إن بعض الأيام كانت تشهد تحميل ثمانية صور على صفحتي «فيسبوك» التابعتين للسرايا. كما نشرت سرايا طليعة الخراساني عددا كبيرا من الصور تظهر مقاتليها أثناء القتال في سوريا، وصورة أخرى لبعض أعضائها الجرحى، بالإضافة إلى مجموعة من الفيديوهات التي تصور مقاتلي السرايا أثناء المعارك. أهم ما يميز الدعاية الخاصة بالسرايا أن مقاتليها يظهرون في الصور وهم يحملون الراية الخاصة بالمجموعة، وهو الشيء نفسه الذي تقوم به قوة الشهيد باقر الصدر، المجموعة الوحيدة التابعة لمنظمة بدر التي تشارك في الحرب في سوريا. وفي الوقت الذي بذلت فيه التنظيمات الإسلامية الشيعية، التي تقاتل في سوريا، مجهودا ضئيلا لإخفاء علاقتها بإيران، اتخذت السرايا خطوة مناقضة لذلك عندما قامت بوضع شعار الحرس الثوري الإيراني على الراية الخاصة بها. كما لا يدع اتجاه المجموعة لتمجيد المرشد الأعلى الإيراني في الكثير من مشاركتها على صفحات التواصل الاجتماعي مجالا للشك حول الزعيم الديني الشيعي أو الآيديولوجية التي أقسمت السرايا على الولاء لها، وعلى عكس الميليشيات الشيعية الأخرى المقاتلة في سوريا، مثل لواء عمار بن ياسر ولواء الإمام الحسن المجتبى ولواء أبو فضل العباس، لم تقل سرايا طليعة الخراساني ما هي التنظيمات الشيعية العراقية - إن وجدت - التي أرسلت أعضاءها للقتال ضمن صفوف المجموعة.
ورغم أنه جرى الكشف عن هوية قادة المجموعة، فإنه لا تتوفر معلومات دقيقة عن عدد مقاتلي سرايا طليعة الخراساني. وتقول تقارير إن السرايا تقاتل في دمشق حول ضريح السيدة زينب وفي المنطقة الريفية المسماة {الغوطة}، الواقعة قرب العاصمة دمشق. وانتشرت الفيديوهات التي تصور اشتباكات مقاتلي السرايا، انتشار النار في الهشيم بين كل من مناصري مقاتلي المعارضة السوريين وكذلك مناصري الميليشيات الشيعية. وربما يعود السبب في ذلك إلى أن هذه الفيديوهات تبدو طبيعية نوعا ما، كما أنها أطول كثيرا من الفيديوهات الأخرى.
وتبدو المعلومات المتوافرة عن أعداد مقاتلي سرايا طليعة الخراساني, المشتركين في القتال, قليلة جدا. غير أنه بالنظر إلى الصور الخاصة بالمجموعة، يتضح أن السرايا تضم أكثر من عشر مقاتلين. وتستخدم المجموعة الأسلحة التي تتوفر للميليشيات الشيعية الأخرى. وتضم تلك الأسلحة بنادق من نوع كلاشنيكوف ودراغونوف وآر بي جي 7s ومدفع بي كاي إم الرشاش. كما جرى توثيق استخدام المجموعة لمدافع الهاون الخفيفة في اشتباكات في المناطق الريفية خارج دمشق.
وبالإضافة إلى الأسلحة الصغيرة التي تستخدمها المجموعة بجانب الأسلحة المذكورة، يبدو الزي الذي ترتديه سرايا طليعة الخراساني مشابها للزي العسكري للجيش الأميركي.

* نظام الأسد يجند «القاعدة»
يقول برايان فيشمان الأكاديمي والصحافي وخبير في مكافحة الإرهاب المتخصص في شؤون «القاعدة»، مسؤول مكافحة التطرف بمؤسسة «أميركا الجديدة» والأستاذ في أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية، إن اتهام وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو النظام السوري وجماعة القاعدة في العراق والشام بتكوين شراكة من خلف الستار، ربما يبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى مضحكا لأن الجهاديين لم ينتقدوا الأسد والطائفة العلوية فقط، بل إن لـ«القاعدة» سجلا طويلا من الخطاب المعادي للأسد، بيد أن الوقائع على الأرض تشير إلى وجود تاريخ طويل للجهاديين في عقد صفقات مع فصائل مختلفة يعدونهم أعداء استراتيجيين.
ورغم أن الاتهامات بالتحالف غير مدعومة بأدلة موثقة، وهو ما يجعل من الصعوبة الوصول إلى حقائق مؤكدة، فإن نظام الأسد استفاد من وجود الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) في سوريا بصورة لا تخطئها العين.
ويقول فيشمان لـ«الشرق الأوسط» إن استغلال الأسد «القاعدة» لشق صف المعارضة السورية يمكن التأكد منه في وثائق سنجار (مخبأ «القاعدة» لملفات أعضاء «القاعدة» في العراق التي نشرت عام 2007)، التي أشارت إلى أن نظام الأسد قام بتسهيل انتقال مقاتلي «القاعدة» الأجانب إلى العراق خلال ذروة التمرد العراقي. ويؤكد عدد كبير من المنشقين السوريين أن نظام الأسد قدم الدعم لعمليات «القاعدة»، بما في ذلك تلك التي قام بها أبو غدية، أحد أشهر مهربي الأفراد.
ويوضح الخبير الأميركي أنه مع تزايد حدة التمرد ضده دعم الأسد، الذي كان يأمل تصوير نفسه محاربا ضد انتفاضة جهادية في المنطقة، بشكل عملي تشكيل «جبهة النصرة» و«داعش» وتيسير قيامهما ببعض العمليات المهمة في دمشق لإظهار مدى خطر الجهاديين. علاوة على ذلك ربما يكون الأسد قد أطلق سراح بعض الجهاديين البارزين من سجونه، كان من بينهم أبو مصعب السوري في بداية عام 2012 كي يساعد على نمو المجموعات الجهادية أو تحذير الغرب من خطرهم.
ويقول: «كل هذا التعاون آتى ثماره اليوم، فداعش تشن حربا ضد معارضي الأسد وتركز على إقامة إمارة في شمال سوريا عوضا عن الإطاحة بالأسد، في المقابل لم يقصف الأسد المنطقة التي تسيطر عليها داعش». فيما يلخص التحالف الوطني السوري ذلك بالقول إن داعش ترتبط ارتباطا وثيقا بالنظام الإرهابي وتخدم مصالح آل الأسد، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فمقتل السوريين على يد هذه المجموعة يؤكد الشكوك حول النوايا وراء إنشائها، وأهدافها، وهو ما تؤكده طبيعة الأعمال الإرهابية المعادية للثورة السورية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.