فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مشهدية «داعش».. شرح الانحطاط الشامل

مع كل طعنةٍ مباغتةٍ من قبل قوى الإرهاب على الواقع والناس، تطرح «مشهدية الدم» تحديات واستفزازات تحرّك الباحثين على منازلة الحدث بغية إيضاحه أو تفسيره، كلٌ من مجاله، ومن هنا يكون التفهّم للتحليلات التي تحيل الموضوع الدموي إلى حادثٍ اقتصادي، أو نزعةٍ نفسية، أو تراكم تاريخي، أو انسداد حضاري، وكلها تأتي في سياق هذا التحدي والاستفزاز الذي يسببه حادث الإرهاب المستمر منذ عقود. الخطوط النظرية الكبرى التي ترصد نقاط التحوّل أو تبشّر به تأخذ رواجًا هائلاً بالعالم، على طريقة المقالتين الأشهر في العقدين الأخيرين للقرن العشرين «نهاية التاريخ» لفوكوياما، و«صراع الحضارات» لهنتنغتون، ومن ثم ساد الحديث عن «النهايات» وعلامات الذبول والأفول، والإغراق في التنظير للنعي البشري حتى لكأن بعض الباحثين حينها مجرّد شرّاح لأشراط الساعة في مسجدٍ عتيق.
بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) رأى الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس أن الانتقال من القانون الدولي إلى «المواطَنة العالمية الجديدة» هو المظهر للحقب التالية، حيث تتم إعادة التشريع لهذا المعنى من المواطَنة، ومن ثم إلزام الجميع بقوانينه عبر توحيد جهود القوى العظمى في هذا المجال، من أجل ضمان السلام العالمي وحقوق الفرد كمواطنٍ كوني له حق يتساوى به مع الآخرين على سطح الكرة الأرضية، يرث نظام المواطنة هذا القانون الدولي الحديث ويتجاوزه، وهي فكرة طرح مثيلتها كانط قبل مائتي سنة حين تحدث عن تأسيس «ائتلاف بين الشعوب». يشرح هابرماس أن الإرهاب جاء نتيجة لخيبة الأمل من الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط وباكستان، ويشير إلى تضمن الإرهاب مضمونًا سياسيًا في موضوعه، بالطبع لا يمكن أخذ الصيغة التي ناقشها هابرماس حول الإرهاب على أنها تشمل جميع مظاهره لأنه أدمج في تحليله العمليات الانتحارية في فلسطين وكذلك حرب العصابات مع حركات التحرر الوطني، لكن بالتأكيد أن الإرهاب بذروته التي حدثت قبل سنةٍ من الآن من خلال مظهر «داعش» ليست تعبيرًا عن الغضب من «سياسات الحكومات» بقدر ما هو نكران للواقع وتمرّد على التاريخ.
فالتطرف هو عمليّة تدنيس وإعادة تقديس! وهو عملية تتويج لخلاصة تناقضاتٍ فكرية، واهتمام بمعانٍ نظرية، وتطبيق لحلمٍ متخيّل، وإرادة لاستعادة نموذجٍ غابر.
في سياق الحديث عن التحليلات اللافتة بمضمونها وتفصيلها، ما طرح في أوائل الألفية من تفسير عجيب للتطرف والإرهاب من قبل الفرنسي أندريه غلوكسمان الذي رأى في مظهره ومشهديته «حالة عدميّة»، وهو الأمر الذي أثار النقّاد؛ إذ لا يحمل الإرهاب في مضمونه أي بذرة شكّ أو سؤال أو قلقٍ تحرّضه على البحث في الدروب، والتيه في المسالك، والملل والكآبة حدّ الشعور بالعدميّة الوجودية أو الإضراب عن الوجود كله والسخرية منه، بل الإرهاب يحمل اليقين الصارخ، والنموذج الجاهز، والحقيقة المطلقة، والسيف القاطع، ولديهم فرط حركة وجلَد فاجر في التخطيط والسهر والعمل على المشاريع الدموية.
في التاسع والعشرين من يونيو (حزيران) 2014 أعلن (داعش) عن انبعاث الخلافة الإسلامية من جديد، لتكون ذروة التمظهر للحركات الإرهابية على مرّ التاريخ، ولتصنع من بعد أعنف النماذج الدموية، ولأن ظهورها كان صادمًا فقد رافق تلك الصدمة نتاج مهول من التحليلات والمسببات، والمساحة لا تسمح بنقاش كل تلك التحليلات الغرائبية، غير أن أكثر تلك التفاسير انتشارًا إحالتهم سبب ولادة التنظيم إلى قمع الحكومات للربيع العربي، وحصار المسيرات والتظاهرات مما سرّع في إيجاد طفرة جينية داخل خلايا الإرهاب لتفرز قوارض سامة لا أمصال لها. ويعتبر هؤلاء أن تجريم جماعة الإخوان المسلمين أحاط بـ«الشباب المسلم» ودفعهم إلى القتل والانضمام إلى «سحر داعش»! هذا التحليل المخاتل يحمل في باطنه التبرير، ذلك أن الدول لم تمارس قمع الإسلاميين بالمعنى المطلق للكلمة، بل «حافظت على استقرارها» بالمعنى السياسي والمصلحي للعبارة.
لو أن للتطرف الداعشي الدمويّ الحالي سببًا واحدًا لكان «بدء الربيع العربي» وليس فشله، ذلك أن ملامحه منذ البدء كانت ملامح أصولية، ولم يكن فشله هو سبب ظهور «داعش»، بل كان تدشينه وتشجيعه ودفع قوى عالمية للحراك والتظاهر أكبر سبب لانتعاش هذه الخلايا التي تغذّت على هذا الانفلات. لقد أثمر الربيع العربي حالات تفسّخ في القيم وانحطاطا في الأخلاق، وسرّع من نشر التفاهة وآثار الموت والقتل، لقد جعل الإنسان بلا قيمة، صارت الدماء مستباحة، دمّرت قيمة كل شيء، حتى الفنون ذبلت وانتهت. إن بدء الربيع كان هو الكارثة بكل المقاييس، والسبب لكل تلك الدموية القاتلة والكارثية. لقد كان الانتعاش لـ«القاعدة» ولجميع حركات الإرهاب على أشدّه طوال سنوات الربيع الأربع، وتلك الذروة القاعدية هي التي ولدت «داعش» في مناخٍ غارقٍ بالدماء، والدول الفاشلة، والمؤسسات المترهّلة، والإنسان المحطّم.
«داعش» نتيجة تواطؤ تاريخي وفكري وديني، وهي تمظهر لامتدادٍ قائم، وشرح وتتويج لأزمةٍ في القيم وتيهٍ في الأخلاق، ونتاج تاريخٍ من الضياع بين الثنائيات المطلقة، والحقائق المطقّمة، والمناهج المعمّمة. إن «داعش» بمعناها الأخير، بدلالته الصادمة هي «الشرح للانحطاط الشامل» هي النذير على أن ثمة أباطيل كثيرة بنيت على الباطل، و«داعش» هي ذروة الباطل، وذروة التعبير عنه.