محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

بيروت الفن.. والتجربة

قبل أول من أمس، عندما كنت في الثالثة عشر من عمري، كنت أخصص يومي الويك - إند لدخول صالات الحي الذي كنا نعيش فيه في بيروت (بالقرب من دار الإفتاء) لمشاهدة الأفلام الأميركية دون سواها. كانت هناك ثلاث صالات، تخصصت اثنتان منها للأفلام العربية (معادة غالبًا) وصالة ثالثة اسمها بلازا للأفلام الغربية.
هذه كانت تعرض أفلامًا من الأربعينات وما بعد. صالات البرج التي كانت الموقع الوحيد للأفلام الجديدة، كانت عرضت هذه الأفلام وعادت إلى موزعيها الذين أبقوها في المخزن لحين قدرة الصالات الصغيرة على شراء عروضها. لكن حتى صالتي عايدة وسميراميس العربيّتين كانتا تعرضان أفلامًا غير عربية. «عايدة» أساسًا عوّدت جمهورها على حلقات مسلسلة من أفلام أميركية كان يتم إنتاجها في الأربعينات والخمسينات مدّة كل حلقة منها 12 دقيقة تنتهي بموقف خطر تفسره بداية الحلقة اللاحقة في الأسبوع التالي. هذه المسلسلات كانت تنتج بأرخص التكاليف وتتكوّن تحديدًا على هذا النسق المتسلسل وتعرض في الولايات المتحدة وبريطانيا وحول العالم على هذا الأساس.
بعد ذلك لديك الأخبار المصوّرة أو فيلم كرتوني قصير ثم فيلم أميركي من إنتاج «استديوهات الفقر» كما كانت تسمّى تلك المراكز الإنتاجية الصغيرة مثل مونوغرام وماسكوت وبرودكشن رليسنغ كوربوراشن وسواها. وبعد كل ذلك يبزغ الفيلم العربي (مصري دائمًا).
في الأمسيات، كنت أتوجه مع والدتي وجدتي وخالتيّ إلى سينما عايدة المجاورة (حاليًا محلات لثياب الأعراس!). كنت ألاحظ أن بعض الزبائن من الرجال الذين يعيشون في المباني المجاورة كانوا ينتقلون إلى السينما بالبيجاما. وبينما تحمل الزوجة كيس «المخلوطة» يحمل الرجل «الأرغيلة» (النرجيلة) كما لو أنه آتٍ لزيارة جاره في منزله.
بعد ذلك السن المبكر بقليل انتقلت بهوايتي إلى صالات البرج: سينما روكسي وسينما الدنيا والراديو سيتي والريفولي والمتروبول ويونيفرسال والأمبير والكابيتول.. كنت أعرف - من خلال إعلانات الجرائد - أي فيلم (أجنبي) أريد أن أشاهد، لكني أنزل باكرًا، على أي حال، لكي أقوم بجولة على كل صالات السينما لأشاهد الصور المعلّقة. طبعًا ربما غيّرت قراري وشاهدت فيلمًا آخر غير الذي قصدت مشاهدته تاركًا ذاك ليوم تالٍ أو للعرض في السينما القريبة.
كان ضروريًا عندي أيضا زيارة مكتبتين متجاورتين. في ذلك الشارع المزدحم الممتد من أعلى ساحة البرج إلى مطلع شارع بشارة الخوري. المسألة كانت هيّنة. بعد مطعم الفلافل عند الزاوية كانت هناك مكتبة متخصصة في الصحف والمجلات الأجنبية، تليها سينما روكسي، تليها مكتبة المر، تليها سينما دنيا.
من هاتين المكتبتين كوّنت قراءاتي السينمائية الإنجليزية: كنت أشتري كل ما يسخى به السوق من مجلات بريطانية وأميركية في هذا المجال من «فيلمز آند فيلمينغ» إلى «مونثلي فيلم بوليتين» ومن «فوكاس أون فيلم» إلى «فيلم ريفيوز» وهلمّ جرًّا. وفي أيام الأحد كنت أنزل إلى المكان ذاته لأنه عندما تقفل دكاكين الشارع كان أحد الموزّعين يفترش مجلات سينما أميركية مستخدمة ليبيع الواحدة بربع ليرة.
لا أكتب هنا عن تاريخي بقدر ما أكتب عن تاريخ مدينة عرفت الفن والثقافة بشتّى الطرق. كانت لوحة الحركة الفنية في العالم العربي عندما كانت القاهرة عاصمتها. و«السينماتيك» الشاسع لكل ما يمكن تلقفه من أفلام من كل أنحاء العالم المنتج. ما سر هذه المدينة العجيبة التي استمتعنا بها أيام كان الزمن مفعمًا بالثراء والسخاء؟