سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

في منفى إدوارد سعيد

عمل الكثيرون من العرب في القضية الفلسطينية. الغالبية عن صدق ومحبة ومقاومة مبدئية للظلم، والبعض كجزء من الموجة العامة. والقلة كتجار وكَذَبَة لم تعنِ لهم القضية أكثر من استثمار آخر. واختلف الناس حول ما هو أجدى: النضال العسكري أم النضال السلمي؟ الحرب أم التفاوض؟ ولا شك أن الأكثرية أيدت الخيار الأول. فأمام مجموعة من البدائيين، أو المتغطرسين، أو «العائدين» بعد 2500 سنة إلى القدس، هل تصل إلى الحقوق بالاعتصام أم بالورود؟ ورأى بعض آخر أن إسرائيل أقامت نفسها بدعم من الغرب، ولذا، فالمعركة الحقيقية هناك، وهذه يضر بها العنف والخطف وإحراق الطائرات.
بدأ ياسر عرفات، أهم فلسطيني في المرحلة، بالقتال، ثم انتقل إلى التفاوض. وكان يعرف دومًا أن ثلاثة أرباع المسألة - على الأقل - في أميركا، إذا لم يكن «99 في المائة» كما كان يصر أنور السادات. الجبهة السياسية في أميركا كانت تقتضي خطابًا آخر. أن تخاطب رجال النخبة والمفكرين والمثقفين والفنانين الذين يكوّنون، بدورهم، «رأيًا عامًا» مقابلاً، إن لم يكن موازيًا، للنفوذ الثقافي الإسرائيلي العارم.
أفضل وأهم ما حدث في تلك المرحلة، كان أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن في جامعة كولومبيا، إدوارد سعيد. كان إدوارد سعيد شخصية أدبية وفكرية ذات مكانة كبرى. ورغم منحاه الفكري، أو السلمي، لم يكن يقبل بالتنازلات. ليس فقط في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، بل بكل نواحي الصراع الحضاري مع الغرب، عربيًا وإسلاميًا. وكانت مؤلفاته، وخصوصًا «المستشرقون»، قد دفعت مثقفي الغرب إلى إعادة النظر في ماضي الغرب حيال الشرق.
ولعل «أخطر» أثر لإدوارد سعيد بالنسبة لإسرائيل، كان تأثيره على المفكرين اليهود والصهيونيين، مثل المؤرخ طوني جوت، وسواه، الذين رأوا أنفسهم يعيدون النظر في ما نشأوا عليه. الآن، في نيويورك، لا بد من أن تشعر بالفراغ الذي تركه إدوارد سعيد. والمؤسف أنه ذهب بلا بديل، مثل معظم الاستثنائيين.
وثمة ما هو أكثر مدعاة للأسف: غياب القضية الفلسطينية عن المشهد الأميركي. فالتيارات التي كانت تحركها كتابات إدوارد سعيد ونقاشاته، لم يرثها أحد. والذين يهتمون بالشؤون، أو القضايا العربية، مأخوذون مثلنا جميعًا، بالنكبات العربية الجديدة، والمجازر، والأعداد اليومية المريعة للمشردين والتائهين والمذلين في ديارهم وفي خارج الديار.
كان إدوارد سعيد حضورًا عربيًا مشرقًا في أميركا وفي الغرب. ويظل الآن مرجعًا أكاديميًا باهرًا لمن يحبونه ولمن يختلفون حوله بكل تقدير. ومن مئات أطنان الذي كُتب حول القضية وأثقل من الحبر والورق وتجارة الجملة ومال القبان، يترك إدوارد سعيد درسًا كلاسيكيًا لا يُنسى: البقاء للصدق والعمق. التجار يمتنعون.