هشام عبد العزيز
كاتب مصري
TT

مجتمعات مأزومة.. والحمد لله

يحكي المصريون في سبب قولهم: «الله يخليك يا فقر ساعات بتنفع»، أن كوخا لفقير يجاور قصرًا فخمًا لغني، وأن حريقًا شب في البلدة، فكان الغني يصرخ مستنجدًا بالناس لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ممتلكاته التي يحتويها القصر؛ من مفروشات وستائر وسجاد وأثاثات، فيما قام الفقير عند حدوث الحريق الهائل ووضع جلبابه على كتفه وخرج من كوخه الفقير الفارغ من أي محتويات، وهو يقول ساخرًا: «الله يخليك يا فقر ساعات بتنفع». أخيرا وجد الفقير لفقره فائدة.. فـ«الله يخليك يا فقر»، و«الله يخليكي يا شدة»..
في المعارف الشعبية المصرية كثير من مثل هذه التعبيرات التي تمتدح الأزمات والشدائد، وقد يتعجب أحدنا من تقدير المصريين للأزمات والشدائد، وكنت أرى ذلك تسلية للنفس في معاناتها الطويلة، فإن لم تستطع تغيير واقعك المرّ فمن الأجدى أن تنظر للجانب الإيجابي فيه، أو عليك أن تتعايش معه وكأنك ترغبه، أو كما يقولون في أمثالهم: «إن جاك الغصْب خليه جودة».
وفي دراسات الأزمة يمكن التعرف على قوة وضعف المجتمعات من طبيعة تعاطيها مع الأزمات التي تواجهها. ليست الأزمات شرًا مطلقًا، فالأوطان ليست مجرد حاصل جمع الجغرافيا والبشر. ربما أنتجت المعادلة السابقة شركة أو مزرعة. نحتاج أيضا إلى مجموعة أزمات متتالية كي نحصل على «وطن». الأزمات كالحرارة في معادلات المواد الكيماوية. إن تفاعل البشر مع الموارد على جغرافيا محددة ينتج تاريخًا، يشكل في النهاية وطنًا.
الفائدة الأخرى والأهم التي تنتجها الأزمات مع معادلة الجغرافيا والموارد والبشر، أنها تصهر هؤلاء البشر المختلفين في قالب واحد. بملامح مشتركة متناغمة أشد ما يكون التناغم. تؤجل إسرائيل مثلاً اتفاقات السلام حتى الآن لأسباب كثيرة، منها - ربما - أنها لا تملك ما يمكن أن يسمى «المجتمع الإسرائيلي»، لأنها لم تتعرض بعد للقدر الكافي من الأزمات الصاهرة التي يمكنها دمج المجري مع الأفريقي مع الروسي في قوام واحد ومزاج واحد وطموحات واحدة.
وإذا كانت المجتمعات البشرية تحتاج أثناء تكوّنها وتبلورها إلى الخطر الداهم الذي يشعرها بالحاجة إلى التوحد لمواجهته فتنصهر في مجتمع - وطن، فإن هناك مجتمعات لم تحتج إلى مثل هذا الخطر، إذ إنها تكونت بالأساس على خطر، على مواجهة الأزمة تلو أختها.. مثل هذه المجتمعات لا يخشى عليها من الأزمات، بل من الرخاء.. لا خوف عليها من الفقر، بل من الغنى.. من العسر، بل من اليسر..
في مصر تكوّن المجتمع على مواجهة خطر داهم كل عام عبر آلاف السنين، وهو فيضان «النيل القديم» على حد تعبيرهم.. كل عام في شهر مسرى القبطي (أغسطس - آب الميلادي) كان المصريون ينتظرون هجوم القادم الذي لا يخلفهم إلا نادرًا. يأتي النهر هائجًا مائجًا زائدًا عن الحاجة الوقتية. يدفع أمامه البيوت والحقول والبشر. ويترك فقط بقعًا مرتفعة ما زالت تمثل أصول القرى حتى يومنا هذا. يتحضر المصريون جميعا في وقت واحد بالأرض جاهزة في انتظار الماء، الأرض كلها جرداء في وقت واحد، غارقة في وقت واحد، ثم مخضرة في وقت واحد، ثم يحصدون جميعًا زراعاتهم في وقت واحد. أما إذا قدر الله أن يغيب النيل، ونادرًا ما كان يحدث، فإن المصريين يجوعون جميعًا وفي وقت واحد أيضًا.
مجتمع كهذا لا يخشى عليه من الأزمات.. لا تخافوا، مصر باقية..