حسين شبكشي
رجل أعمال سعودي، ومستشار اقتصادي لعدد من الشركات الخليجية الكبرى، وعضو مجلس إدارة ورئيس مجلس إدارة في عدد من الشركات السعودية والأجنبية. نشر العديد من المقالات في مجالات مختصة، وفي صحف ومجلات عامة في العالم العربي. اختير عام 1995 «أحد قادة الغد» من قبل «المنتدى الاقتصادي العالمي» في دافوس. أول رجل أعمال سعودي وخليجي ينضم إلى «منتدى أمير ويلز لقادة الأعمال».
TT

آخر مسيحي في الشرق الأوسط

يبدو السؤال مشروعا ومنطقيا وواقعيا حين يطرح: هل نحن نعيش حقبة تفريغ الشرق الأوسط من سكانه وأهله وشعبه المسيحي بالكامل؟ مع تسلسل الأحداث الهمجية بشكل موتور وجنوني لا بد من طرح هذا السؤال. الأقلية المسيحية قلقة جدا، بل مذعورة ومضطربة، ولم يعد من الممكن الاكتفاء بمقولة إن الجماعات الإرهابية التكفيرية «يقتلون من المسلمين أعدادا أكبر» لأن هذا الأمر لا ينكر وجود خطاب عدائي وتحريضي واضح ضد الأقليات المسيحية، وبناء على «أرضية» هذا الخطاب تنمو وتكبر هذه الجماعات الإرهابية، ومن ثم تتحول إلى عملها الدموي.
تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين «مشروع» كبير شاركت في إنجازه أطراف مختلفة؛ كل يقوم بأداء دور محدد، ولكن النتيجة كانت الدفع المستمر لإخراجهم من المنطقة، فبعد تأسيس الحدود الجديدة للمنطقة بعد سقوط الخلافة العثمانية ورسم خريطة «سايكس - بيكو» البريطانية - الفرنسية، وجهت الدعوة وفرش البساط الأحمر لاستقبال الآلاف من المهاجرين المسيحيين إلى القارة الأوروبية والعالم الجديد في الولايات المتحدة وكندا وأميركا اللاتينية، وعقب ذلك كان الإعلان عن قيام دولة إسرائيل الذي بموجبه بدأت إسرائيل (مع حلفائها) في تسخير كل وسائل الإغراء والدعم والعون للمسيحيين الفلسطينيين للهجرة والمغادرة، وهذا ما تم عبر عقود من الزمن حتى بات عدد الجالية المسيحية الفلسطينية في تشيلي بأميركا اللاتينية يتجاوز الثمانين ألفا، وما يسري على تشيلي يسري على غيرها من مناطق ودول في القارة الجنوبية. وطبعا كان لظهور أنظمة حكم قمعية ديكتاتورية طاغية مثل صدام حسين في العراق والأسد في سوريا، الدور المهم والكبير في بسط وهيمنة الحكم على أرزاق الناس بحجة التأميم تارة وبحجة الفساد والمشاركة في الموارد والمال تارات أخرى، والأقليات المسيحية في مجملهم أصحاب مصالح اقتصادية مميزة ولم يستطيعوا تحمل هذا النوع من الضغط والمشقة، وآثروا بسبب ذلك الهجرة والرحيل.
وجاءت الحرب الأهلية اللبنانية في بلد يعتبر فيه الوجود المسيحي جزءا أساسيا وأصيلا ومهما في هوية البلد نفسه، لتكتب فعليا حدا فاصلا للأمان والتميز المسيحي فيه، ليجيء احتلال صريح واضح من نظام الأسد المجاور فقضى على الإرث المسيحي، وأهان رموز السياسة وقتلهم وشردهم وأجبرهم على الرحيل القسري وطارد أصحاب المال بالتهديد والإجبار على الشروط التي وضعها وفرضها عليهم، حتى الكنيسة المارونية لم تسلم من التدخل والتهديد والتسلط الأسدي عليها، وكانت أرقام الرحيل أبلغ دليل، وأفرغ بالتدريج لبنان من مسيحييه حتى بات اليوم يحكم من جماعة يمثلها حزب أصولي تكفيري إرهابي يقاد من بلد آخر يمنع فعليا انتخاب رئيس جديد مسيحي في بعبدا، ليجبر كل اللبنانيين على الاعتراف وقبول رئيس جديد من الضاحية!
المؤرخ اللبناني المتمكن القدير كمال ديب قالها بصريح العبارة في كتابه الجميل «وهذا الجسر العتيق»، حيث توقع بصريح العبارة أنه بحلول عام 2020 لن يتبقى أي مسيحي في لبنان، وهذه العبارة المخيفة يجب أن يستشعرها كل مسيحي في الشرق الأوسط اليوم لأن «أجراس الإنذار تقرع بقوة، وحملات الترويع مستمرة بحق المسيحيين الذين يجبرون على ترك مسقط رأس ديانتهم في الشرق الأوسط مهد السيد المسيح، فهو ولد بفلسطين وعمد بالأردن وزار مصر، وبالتالي لا يمكن إنكار وجود أصيل للمسيحيين في التاريخ العربي، بل إن قبائل وعشائر مثل المناذرة والغساسنة لها انتماء مسيحي لا يمكن الجدال فيه ولا إنكاره».
الجاليات المسيحية الموجودة في شمال أفريقيا ومصر والسودان والأردن ولبنان وسوريا والعراق والكويت والبحرين، والحاملة لجنسيات هذه الدول، يجب تسخير كل الإمكانات للحفاظ والإبقاء عليها، ليس إرضاء لصورتنا أمام الغرب، كما يردد السذج والمسطحة عقولهم، ولكن لأن الدين الإسلامي نفسه وسيرة الهادي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، أمرانا بذلك، فلا يمكن أن أنكر السيرة النبوية وآخذ بآراء شاذة، كما يحصل الآن.
تفريغ الشرق الأوسط من المسيحيين (كما حصل وتم تفريغ اليهود من الدول العربية من قبل) ليس في مصلحة العرب ولا المسلمين، لأن فيه دليلا صريحا ودامغا وحقيقيا على عدم قدرتنا على التعايش مع الغير المخالف لديننا، وهو على عكس ما نردده ليلا ونهارا. بقي أن نثبت ذلك بشكل جاد وعملي، وإن كنت أخشى على قدرتنا في تنفيذ ذلك الأمر، فعدم قدرتنا على التعايش كمسلمين بعضنا مع بعض سيجعل من المهمة المطلوبة المقلقة بالتعايش مع الأديان الأخرى، أشبه بالمستحيلة، إلا أنني أراهن على التاريخ غير البعيد، وقت كان ذلك كله حقيقة، والتسامح والتعايش واقعا يعيشه الناس ويحكون عنه قبل خروج «جني» التشدد والإرهاب.