خليل رشاد
كاتب ومحلل سياسي مصري
TT

دعوة لإيقاظ ليبيا!

في روايته التي لا تنسى، «في بلاد الرجال»، يقدم هشام مطر رؤية محزنة للغاية بخصوص أوضاع الشعب الليبي في ظل حكم القذافي: «أستاذ رشيد قال: قف دائما في مواجهة البحر، وتوقع دائما الأسوأ» («في بلاد الرجال» - ص 27).
ويمثل الأستاذ رشيد صوت الحكمة في الرواية، فهو مراقب للمجتمع من حوله وللحكومة. والآن، إذا انتقلنا لما وراء عالم الرواية وتطلعنا نحو الواقع القائم على الأرض، فسنجد أننا للأسف لا يزال يتعين علينا توقع الأسوأ. والواضح أن هذه لم تعد مجرد عبارة في رواية، أو مشهد في فيلم هوليوودي، وإنما تحولت لواقع يعايشه الشعب الليبي. في ليبيا، أصبح الغد أسوأ من اليوم، والآن تحولت البلاد إلى دولة فاشلة مليئة بالأسلحة والمال والنفط، ومن المحتمل أن يستغلها «داعش» كمنصة لمهاجمة أهداف غربية والانتشار في شمال أفريقيا.
ويعد ذبح مصريين مسيحيين أبرياء على شاطئ سرت، والقبض على أسر مسيحية في سوريا في 25 فبراير (شباط) الماضي، من بين الفصول الملعونة في التاريخ المعاصر للعالم المسلم. وتقع مثل هذه الجرائم ضد البشر والقيم الأخلاقية باسم الإسلام، وترتكب على أيدي أناس غرباء يؤمنون بأنهم يسعون لإحياء البشرية على أساس القيم الإسلامية كما يرونها.
وردا على ذبح المصريين جاء قصف درنة من جانب القوات الجوية المصرية عبر عملية مشتركة بين خليفة حفتر وصقر الجيوشي، ونددت منظمة العفو الدولية وحكومة طرابلس بهذا القصف.
منذ مقتل القذافي في أكتوبر (تشرين الأول) 2011، لم تشهد ليبيا وجود حكومة وطنية. ولإيجاز القصة الطويلة وراء هذا الأمر يمكننا القول إن هناك ثلاث جماعات بارزة داخل ليبيا في اللحظة الراهنة. أولا: في ليبيا، هناك حكومتان، رسمية وشبه رسمية، وبرلمانان، وجيشان، وما إلى غير ذلك. وتفصل بين طرابلس إلى الغرب وطبرق إلى الشرق مسافة 1000 كيلومتر. وقد تأسس مجلس منافس على يد جماعة «فجر ليبيا» المسلحة تحت مسمى المؤتمر الوطني العام، وسيطر على طرابلس الصيف الماضي. بعد ذلك، نقل رئيس الوزراء المعترف به دوليا، عبد الله الثني، حكومته إلى الشرق في طبرق.
في الجنوب، تعاونت «فجر ليبيا» مع الطوارق. في المقابل، تتمتع سلطات طبرق، المتحالفة مع اللواء حفتر والقوات الفيدرالية شرق ليبيا، بدعم ميليشيا الزنتان في الغرب وأقلية «التبو» العرقية في الجنوب.
أما الاختلاف بين عقول واستراتيجيات الأطراف والجماعات المسلحة فيبدو أكبر من المسافات الجغرافية بينها، حيث تبدو هذه المجموعات عاجزة عن الحديث إلى بعضها البعض، علاوة على عجزها عن إدارة حكومة وطنية في ليبيا. واليوم، يعمل تنظيم داعش على تعزيز جذوره ونفوذه بالبلاد.
من ناحيتها، تؤمن طرابلس بأنها الممثل الوحيد والحقيقي عن الثورة الليبية ضد القذافي، متهمة طبرق بضم الموالين للقذافي واتباعها قيما علمانية مناهضة للإسلام. في المقابل، تدعي طبرق أن طرابلس تقع في أيدي المتطرفين والمتشددين.
وتسببت الأزمة القائمة بين سلطات طبرق و«فجر ليبيا» في تمزق البلاد على امتداد خطوط جغرافية وقبلية وسياسية. ويشجع هذا الوضع انتشار الجماعات المتشددة. جدير بالذكر أن جماعة «أنصار الشريعة»، المرتبطة بتنظيم القاعدة، وجماعات أخرى انضمت لـ«داعش» تتمركز حول بنغازي ودرنة.
الآن، أصبحت درنة وسرت في يد «داعش». علاوة على ذلك، يعمل «داعش» على ترسيخ وجوده في بنغازي ومصراتة وعدد من المدن الصغيرة الأخرى داخل الهلال النفطي على سواحل خليج سيدرا.
وكما حذر الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، فإن ليبيا تقف على حافة الفوضى والإرهاب. وإذا اجتمعت الجغرافيا والقبائل والنفط معا في ليبيا، فأعتقد أن مستقبل البلاد سيكون أسوأ مما عليه الحال في سوريا والعراق. ونحن الآن في انتظار الأسوأ!
ولا شك أن ما يجري في ليبيا الآن يعد بمثابة صيحة إيقاظ كبرى للشعب الليبي ولحكومتي طرابلس وطبرق، وجميع الدول المجاورة، خاصة مصر وتونس والسودان والعالم الإسلامي والدول الغربية، خاصة إيطاليا واليونان.
وليس بإمكاننا نسيان ما أعقب الهجوم الإرهابي في باريس ضد صحيفة «شارلي إيبدو». وإذا لم تضع جميع الدول، غربية ومسلمة، خطة محددة لتناول هذه المشكلة، فإننا سنواجه كارثة في شمال أفريقيا وأوروبا.
والواضح أنه لا يوجد علاج بسيط لوجود «داعش» بالمنطقة، فلكل دولة ومنطقة وضعها الخاص. والملاحظ أن «داعش» واجه صعوبات في سوريا والعراق، وبالتالي سيحتاج لملاذ آمن لإعادة بناء صفوفه. وتوفر ليبيا فرصة رائعة وأرضا خصبة لـ«داعش» من هذه الزاوية.
وكخطوة أولى، تحتاج ليبيا لتشكيل حكومة وطنية، وجيش وطني موحد وبرلمان واحد ومصرف مركزي واحد واستراتيجية واضحة تجاه النفط. وفي الوقت الراهن، تتسم جميع هذه العناصر بالتمزق. والأسوأ أن هذه العناصر المتمزقة تحارب بعضها بعضا. ويتعين على أربع دول من جيران ليبيا، وهي مصر والجزائر وتونس والسودان، الاضطلاع بدور مؤثر في توحيد الحكومة الليبية، ذلك أنه من دون تشكيل حكمة وطنية موحدة فسيفكك «داعش» الحكومتين الحاليتين! لقد أصبح الأمر مسألة وقت الآن، وحتى اليوم أصبح متأخرا مع دخول «داعش» قبل الهلال النفطي.
والمؤكد أن أي مبادرة عسكرية في ليبيا قبل إقرار حكومة وطنية ستخدم «داعش». كما أن القبائل في ليبيا تلعب دورا بالغ الأهمية، وبالتالي فإن دور زعماء القبائل ورجال الدين على درجة كبيرة من الأهمية، بمعنى أن شن حرب ضد التطرف والعنف باسم الإسلام من دون مشاركة رجال دين وزعماء قبليين مؤثرين، لن يثمر نتائج مقبولة. ولا ينبغي الاعتماد في الحرب ضد «داعش» على القوة الخشنة فقط، وإنما ينبغي كذلك شن حرب ناعمة ضد التنظيم.
على سبيل المثال، من الواضح تماما أن «داعش» يشن حربا نفسية لإبداء قوته، مثلما يتضح من فيديو ذبح المصريين المسيحيين على شاطئ البحر المتوسط، أو إحراق معاذ الكساسبة داخل قفص حديدي، وما إلى غير ذلك. أما نحن فبحاجة لهزيمة الفكرة التي يعتمدون عليها أولا!