ارتدى المخرج الأميركي لي دانيالز، رئيس لجنة تحكيم مسابقة المهر الطويل، الزي الوطني كاملا ووقف أمام الحضور في حفلة توزيع الجوائز ليل أول من أمس وقال: «أنا خجول من أنني لم أكن أعرف شيئا عن العرب والمسلمين. السائد لدى إعلامنا للأسف هو غير الواقع الذي لمسته. أنا فخور بأنني اكتشفت ذلك».
لاحقا، سألني تفسير التناقض القائم بين الواقع الذي تعرف عليه وما يؤمن به «غالبية الأميركيين للأسف بمساندة الإعلام السائد» كما قال. بعد أن فعلت ذلك قال: «أقول لك إنني سعيد جدا بوجودي هنا وسأغادر بصورة مختلفة تماما عن تلك التي جئت بها إلى هنا. أشعر بأنني اكتشفت حياة جديدة تحفزني على المعرفة أكثر».
إذن، بعض ما ينجزه المهرجان العربي، أي مهرجان، هو التعريف الناصع لنا كما نحن وليس كما يتم تصويرنا. وكلما كان المهرجان منظما، كحال مهرجاني دبي وأبوظبي، وصلت الصورة البديلة بنجاح أكثر.
لكن هذا الدور ذاته، وبمساحة أكبر، هو المنشود من أفلامنا. حين نسأل عن ما هو المطلوب لتقديم ثقافتنا وتراثنا وحياتنا إلى العالم للمساهمة في تغيير الصورة الشائعة (في بعض أنحاء هذا العالم على الأقل)، فإن الجواب الوحيد كان وسيبقى: صنع فيلم جيد.
لي دانيالز، مخرج «رئيس الخدم» يوافق:
«تماما. اصنع الفيلم جيدا وأعتقه من المباشرة، وهذا كل ما عليك أن تفعله. العالم ليس بحاجة لفيلم واعظ، لكنه يريد أن يعرف ولا يمانع في المعرفة، لكن التغيير لا يتم بفيلم واحد، بل بأفلام عدة متلاحقة وجيدة يسهل وصولها إلى الأميركي والأوروبي والآسيوي ومن سواهم. هذا تماما المطلوب».
* سينما نسائية
* الأخبار التي تسربت من لجنة التحكيم التي ترأسها دانيالز؛ هي أن وجهات نظر أعضاء لجنة التحكيم لم تكن متفقة في البداية (أمر طبيعي في كل أحواله). يقول لي أحدهم: «كانت هناك محاولة للنظر إلى الأفلام وتقييمها حسب شروط مهنية قاسية، وكان هناك من يطالب بالنظر إلى الاختلاف الثقافي والصناعي وضرورة الأخذ في الاعتبار القدرات الفردية».
هل أخذ القدرات الفردية بعين الاعتبار هو ما أوصل «أنا نجوم بنت العاشرة ومطلقة»، الذي حققته المخرجة اليمنية خديجة السلامي، إلى جائزة أفضل فيلم روائي طويل؟
الفيلم حمل قضية وتصويرا جماليا أكثر مما حمل إتقانا. المراهنة التي قامت بها المخرجة نجحت. لقد اختارت قضية محلية وقعت أحداثها قبل سنوات قليلة عندما تقدمت فتاة في العاشرة من عمرها بطلب الطلاق ممن تم تزويجها إياه (يكبرها بعشرين سنة). اعتبرت أن هذه القضية الخاصة التي شغلت الرأي العام والأوساط بعض الوقت مادة صالحة للتقديم السينمائي، وهي بكل تأكيد، كانت على حق. المشكلة هي أن الكيفية التي تم بها نقل هذه الحكاية كانت تقليدية ونمطية المعالجة. هذا في تفاصيل التنفيذ. في اعتماد الفلاشباك مرة تلو المرة. في الانتقال ما بين الأزمنة على نحو غير خلاق وفي فتور مشاهد المحاكمة ونمطية الانتقال مونتاجيا بين المتحدثين.
أفضل فيلم غير روائي حاله أفضل. إنه أيضا لمخرجة (وليس مخرجا) وهو «سماء قريبة» للإماراتية نجوم الغانم، التي نراها منذ سنوات وهي تنال جائزة تستحقها تقريبا في كل مهرجان تشترك فيه.
حقيقة أن هاتين الجائزتين الأوليين من تحقيق امرأتين هي حقيقة لافتة.
في الواقع، ذهبت كل الجوائز الأولى إلى مخرجات. فجائزة «المهر الإماراتي» ذهبت إلى الشابة عائشة الزعابي عن فيلمها «البعد الآخر»، وجائزة «المهر للفيلم القصير» كانت من نصيب المخرجة التونسية هند بوجمعة عن فيلمها «... وتزوج روميو جولييت».
هل هذا لأنهن أفضل من المخرجين الرجال؟
الجواب ليس على أساس من هو أفضل، فهناك جيدون وغير جيدين من الجنسين وعلى نحو متكافئ، لكن قد يدخل عنصر أن المرأة العربية تجد أن عليها أن تضاعف من جهدها في مواجهة التحديات المثارة أمامها، وخصوصا في هذا الوقت بالذات. وفي حين هناك نسبة لا بأس بها من المخرجين الرجال الذين يسلمون بالبديهيات، مما يجعل المرأة أكثر رغبة في الخروج من الواقع المحيط بها صوب تأسيس ذاتها والنجاح في تحقيق غاياتها الذاتية. إلى حد بعيد، هناك ذلك التحدي الذي يفرضه وضع الأنثى العربية، فإذا بها تتنافس في شكل مزدوج: المصاعب التمويلية التي هي من نصيب كل المخرجين بلا استثناء كما إثبات رؤيتها وهويتها كمخرجة أنثى عربية.
* في منطقة مهجورة
* الأفلام الإماراتية القصيرة لم تكن الأفضل بين ما تم تقديمه منها في السنوات القليلة الماضية. احتوت على فيلم روائي طويل واحد بعنوان «عبود كنديشن» لفاضل المهري. حمل الفيلم فكرة نيرة وموضوعا جيدا وسيناريو هشا (في الوقت ذاته) كان يستحق أن تعاد كتابته: فيلم كوميدي داكن النبرة حول ذلك الموظف الشاب الذي يخسر عمله وحبه بسبب من تصرفاته. لديه قلب من ذهب وقليل من الإدراك لكيفية الخروج من صندوق الذات المضطربة.
يبدأ الفيلم بمشاهد مفككة ثم يستوي على سرد معين يعد بالأفضل، لكنه لا يحققه. صاحبنا الموسوم بـ«كونديشن» يعود إلى أنه ابن لعائلة كانت الأولى التي استوردت المكيفات وأدخلتها الأسواق. لكنه ابن وحيد ومعدم يعمل موظفا ويعتقد أنه سيستطيع الوصول إلى رئيس الشركة التي يعمل فيها ليوقف عملية تحويله إلى مقر آخر بعيد قد يكون تمهيدا لصرفه. لكن الفيلم يدخل في ويخرج من اتجاهات مختلفة. صحيح أنه يلتزم حكاية بطله، لكنه لا يقدمها بسرد مدروس، بل يشترك في فوضاها.
على ذلك هو فيلم إنساني جيد في نظرته إلى بطله وعالمه. هناك تلك العلاقة الممتازة بين عبود والهندي المسلم الذي يعمل في بيته وحديقته ويرعى دجاجاته وبطه. حين يضطر الهندي للمغادرة يفرغ الفيلم نفسه من أهم عناصر قواه ويستكمل العمل بحثا عن حلول لأزمة بطله دون أي نهاية عميقة.
«البعد الآخر»، الفيلم الذي فاز بجائزة الفيلم الإماراتي الأولى، يحمل فكرة وجدانية و- تقريبا - سوريالية حول ذلك الشاب الذي ارتكب أخطاء في الحياة. ذات يوم تتعطل سيارته ليلا نتيجة حادث في منطقة مهجورة. يعيش وضعا ما بين الحقيقة والخيال وتزوره الأخطاء التي تسبب فيها بحق الآخرين، فكل ما تفعله يعود عليك خيرا كان أم شرا.
* ما بعد سنوات الحب
* في «المهر القصير» (أفلام عربية قصيرة من بقاع عربية مختلفة) تكونت المسابقة من أفلام أفضل. «... وتزوج روميو جولييت» للتونسية هند بوجمعة عمل رائع في تشكيله وانسيابه وتفاصيله التقنية والإنتاجية وكلها تؤازر حكاية لا حدود لها، تصلح أن تقع في أي مكان على الأرض.
رجل وزوجته، كلاهما فوق الستين، يعيشان معا في بيت واحد. تسجل المخرجة كيف يبدأ اليوم مع كل تصرفات وضروريات الصباح. تفعل المخرجة ذلك على يومين لتأسيس الحالة الروتينية التي يعيشانها كل يوم. هما من بقايا أيام أفضل. لقد اضمحل الحب وإن لم ينته. لكن ما هو سائد اليوم هو التبرم. كل من الآخر. الحوار قليل والتصرفات هي الدالة. يتجنب كل منهما الحديث مع الآخر لكنه يفهمه. الزوج يغادر كل صباح (بعد أن يتناول فطوره ويرمي نثرات الخبز إلى عصفوره من بعيد) وقبل المغادرة يكتفي بالقول: «اليوم معكرونة». هو مستعد لأن يأكل معكرونة كل يوم. لا شيء كثيرا يحدث بينهما. ولا تعمد المخرجة إلى زج أكثر مما تروي لأن ما ترويه كاف. النظرة في الوقت ذاته كوميدية ومخيفة كمستقبل علاقة لزوجين يعيشان في بيت واحد بشخصيتين مختلفتين مضطرتين إلى البقاء تحت هذا السقف.
هناك فيلم رائع من اللبناني كريم الرحباني، عنوانه «ومع روحك» (شهادة تنويه خاص). أول ما يواجهك فيه هو قدرة المخرج الشاب على إنجاز ما هو متقن بصريا وسرديا وبلا هفوات. نحن هنا في دير بجبل في لبنان. أحد رهبان الدير يقتل الجزار المسلم الذي جاء يسلم اللحم وليقبض مستحقاته. حين يقوم الراهب بدفع الجزار عنه يسقط أرضا ويشج رأسه ويموت.
نتابع كيف سيتخلص هذا الراهب من الوضع الماثل الذي يهدد حياته ومكانته. هل يعترف؟ لا. سيحاول إخفاء الجثة والتأكد من أن الولد الصغير الذي يعيش في الدير لا يتذكر ما شاهده عندما كان يجر الجثة إلى غرفته قبل دفنها ليلا. إضافة إلى ذلك، ها هو يعظ في خطبة يوم الأحد بالاعتراف والصدق ويختتم الفيلم برسالة تفيد بذلك القدر من النفاق الذاتي. لا يدين الفيلم الكنيسة ولا رجال الدين، لكنه ينتقد الفعل الفردي، وللمشاهد أن يسحب هذا النقد ليبقيه داخل الحالة الفردية أو لينشرها.
فيلمان مصريان كانا في المسابقة ذاتها هما: «سكر أبيض» لأحمد خالد و«ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375» لعمر الزهيري.
الأول يدور في داخل حلم يرويه لنا مخرجه. جيد إلى أن يحين وقت انتهائه ولا ينتهي، وحين يقفل بالمشهد الأخير يكون فقد تلك البارقة التي بدأ بها.
الثاني كحال فيلم «ومع روحك»: جيد، لكن قلة الجوائز وجودة الأفلام المنافسة تسببا في خروجه من دون جائزة. أحببت فيه التعامل مع المكان والزمان ولم أعجب بألوانه الباهتة (عيوب تصوير). إنه حول حفل تدشين حمامات في الصحراء. الحكاية مأخوذة عن قصة لأنطون تشيخوف (اسمها «موت موظف») لكنها تحمل لمسات كافكاوية، والأهم أنها مصنوعة في كيان زمني ومكاني خياليين لكنهما قريبان من الواقع.
* الوضع السوري
* في مسابقة الأفلام الطويلة، أفلام جيدة وأخرى أقل جودة. «رسالة إلى الملك» لهشام زمان (تمويل إماراتي ونرويجي) على نقيض من «راني ميت» من الجزائر من تحقيق ياسين محمد بن الحاج، و«روشميا» لسليم أبو جبل أجمل من «سارا 2014» لخليل المزين وكلاهما فلسطيني.
لكن الوضع القائم في سوريا استنفد اهتمام مخرجين تعاملا معه.
في «رسائل من اليرموك» للفلسطيني رشيد مشهراوي محاولة لدخول مخيم اليرموك الذي حاصرته قوات النظام وتحصنت فيه قوى فلسطينية معارضة ودفع الفلسطينيون العزل الذين يعيشون فيه الثمن.
اقتراب المخرج من هذه المعضلة يتم (كما كان الحال في «مياه الفضة» لأسامة محمد) عبر الفيديوهات المصورة ونظام «سكايب» للتواصل. لكن على عكس ذلك الفيلم، «رسالة إلى اليرموك» أكثر إنسانية. أقل محاولة لإبراز ذات المخرج وأكثر - من ثم - تواضعا. مشهراوي يوزع نفسه بين الضحايا وهما على نوعين: الشاب نيزار الذي يصور له ويبعث له بتقاريره التي يستخدمها لبناء هذا الفيلم، كما خطيبته التي نجحت في النزوح إلى ألمانيا كمهاجرة، والجياع والجرحى والموتى وباقي فئات الناس التي تجد نفسها بين فكي كماشة.