سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

الهرم والقناة

لا نعرف أعداد المصريين الذين قضوا وهم يرفعون أحجار الأهرام، لبنة.. لبنة. فلم يكن التدوين شائعا في تلك الأيام، ولا كان عدد الضحايا مهما. غير أننا نعرف - على وجه التقريب - أن 120 ألف مصري قضوا في شق قناة السويس.
بُنيت الأهرامات لكي تكون في استقبال بضعة «عائدين» إلى الحياة. وتحوّلت - عن غير قصد - إلى مصدر دخل ورزق. وشُقّت القناة من أجل حياة مصر، ومعها جزء كبير من أهل العالم. ولسنا نعرف، ولن نعرف، على وجه الضبط، أعداد المستفيدين، بطريقة أو بأخرى، من هذا «الشريان» الحيوي لأوسع حركة تجارية حول العالم.
يُصار الآن إلى بناء قناة جديدة موازية، بأموال المصريين، وليس بأرواحهم. اقترضت الدولة من الناس والأهل بدل أن ترهن القناة لدول وقوى خارجية، كما في القناة الأولى. وليس لنا سوى أن نتخيّل مدى الفوائد التي ستحملها القناة الجديدة لمصر ولحركة التبادل التجاري والإنساني في العالم.
ذلك هو الفارق، عبر التاريخ، بين البناء من أجل الشعوب والدول والأوطان، والبناء من أجل الأنا. بين المعجزات المعمارية التي أقيمت من أجل الخرافة، وتلك التي أقيمت من أجل تحسين أوضاع البشر.
يؤسف - وأعني ذلك تماما - أن تكون بعض أهم المشاريع مرتبطة بأسماء وتواريخ استعمارية، كالجامعات والسدود والطرق، فيما نذكر عددا كبيرا من الحكام بعدد الجواري والعبيد. ولا شك أن مصر التي تباهي بعدد الذين قضوا في شق القناة، تريد أن تتناسى عدد الجنود الذين قضوا في حرب اليمن.
يترك لنا بعض الحكام الكثير من العبث وفيضان الأنا. لا يعودون يرون في الأرض شيئا سوى ذاتهم ومن هم في فلكها. يظنون أن الحياة ستمدد لهم وحدهم، وتعود إليهم وحدهم فوق ظهور آلاف الضحايا. ويتكرر التاريخ من دون أن يترك أمثولاته في كل مكان. أنشأ الألباني محمد علي مصر الحديثة، وبنى أنور خوجة في ألبانيا نفسها آلاف الملاجئ الإسمنتية، خوفا من حرب نووية سيتعرض لها، هو شخصيا، نظرا لأهميته العظمى في الكتلة الشيوعية، فقد كان فخامته من جناح ماو ضد موسكو، وكان يعتقد أن الكون معلق بمواقفه. ترك الألبان لمصر، وتركوا للهند «تاج محل»، واكتفوا في بلادهم ببيوت أنور خوجة، التي تمتلئ الآن بالمشردين.