من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر
TT

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

من التاريخ : في أحضان بطرس الأكبر

أذكر أنني تناولت حياة بطرس الأكبر مؤسس روسيا الحديثة في هذا الباب، وقد كنت أدرك دوما أهمية هذا الرجل بالنسبة لروسيا وتاريخها، وكيف أنه أخرجها من ظلمات عصور الجاهلية إلى الحداثة من خلال عملية «تغريب» استمرت منذ اعتلائه سدة الحكم بشكل مطلق في عام 1696 وذلك بعد قضائه على كامل نفوذ أخته صوفيا التي كانت وصية عليه وعلى أخيه إيفان الخامس الذي توج قيصرا إلى جانب بطرس. وبمجرد أن اعتلى الرجل سدة الحكم في البلاد بعد موت أخيه وقيامه بنفي أخته صوفيا، قرر أن يغير روسيا ليخرجها من عزلتها الشرقية ويجعلها دولة أوروبية شكلا ومضمونا وسياسة.
وقد واجه هذا الرجل مشكلات كثيرة في سعيه هذا، إلى الحد الذي جعله يدرك، ضمن أمور أخرى، ضرورة تغيير العاصمة الروسية موسكو لصالح مدينة أخرى بعيدة عنها كل البعد؛ ليس فقط من حيث المسافة، ولكن من حيث الفكر والتقاليد.. فلقد كانت موسكو رمزا للفكر والتقاليد المحافظة، فكانت ترفض كل أنواع الحداثة أو التطوير، التي رأتها نوعا من الخروج على الكنيسة الأرثوذكسية وتقاليد الشعب الروسي. وبالتالي، وصل الرجل لقناعة بأن فرص تطبيق مشروعه التحديثي لن تتأتي إلا بترك موسكو التي لم يكن لها في قلبه حب كبير بسبب طفولته البائسة وسط مؤامرات الكرملين وخيالة «السترليتزي» أو الحرس القيصري، الذين كادوا يودون بحياته بسبب ثوراتهم الممتدة وتحالفهم مع أخته صوفيا، وحتى بعد القضاء عليهم وإعدام 1183 منهم (تروى القصص التاريخية أن الرجل شارك في قطع رقابهم بنفسه انتقاما مما فعلوه به والخوف الذي أدخلوه في قلبه وهو صغير) فإن القيصر الجديد كان يريد الخروج من موسكو بأي ثمن نحو مدينة تكون «نافذة روسيا على العالم»، فتكون أول مدينة تطل على البحر.
كان لا بد للرجل أن يجد المدينة المناسبة لبداية مشروع الحداثة، وهو ما قرره في عام 1703م عندما استقر رأيه على بناء مدينة سان بطرسبورغ على نهر نيفا Neva، التي تطل أيضا على بحر البلطيق لتصبح منفذا بحريا ومركزا للتفاعل مع القارة الأوروبية بعدما كانت روسيا دولة قارية منعزلة لا موانئ لها إلا بعد الحملات الجنوبية في البحر الأسود للاستيلاء على ميناء أزوف من الدولة العثمانية. وقد بدأ الرجل رحلة بنائه للمدينة بنفسه، وقلما نجد قائدا يقوم ببناء البيوت بنفسه وبهذه السرعة، فلقد تعلم الرجل النجارة والعمارة خلال رحلة له في أوروبا لمدة عام ونصف العام وهو قيصر تاركا ملكه في سبيل العلم. ويقال إن الرجل بدأ في بناء المدينة ببناء كوخ خاص لإقامته في 3 أيام فقط. وحقيقة الأمر أن رحلة بناء المدينة كانت صعبة للغاية لأن القيصر الشاب قد اختار منطقة استراتيجية، ولكنها كانت على مستنقعات، بالتالي كانت عملية تجفيف هذه المدينة صعبة للغاية وتحتاج لجهود مضنية، ولكن الرجل لم يتورع عن استخدام كل الأساليب الإنسانية وغير الإنسانية لبناء مدينته في أسرع وقت، بما في ذلك السخرة، والأسرى، وأبناء الشعب، والجنود، وكل ما استطاع أن يضع يده عليه من رجال، بل تورد بعض المصادر التاريخية أن الرجل فرض على ضباط جيشه الحديث العمل بأيديهم، وهو ما كانوا على أتم استعداد لفعله ما داموا قد رأوا قائدهم وقيصرهم يفعل الشيء نفسه، بل إن كثيرا من البناة استخدموا أياديهم لهذا الغرض لقلة الأدوات وكثرة ضغط القيصر عليهم.. وفي أشهر قليلة، بدأت معالم المدينة تتضح، وخلال السنوات القليلة التالية استطاع الرجل بضغطه وقوة شخصيته أن يفرض على العاملين الانتهاء منها، وأصبحت سان بطرسبورغ العاصمة الجديدة للقيصر الروسي الذي توج نفسه إمبراطورا بعدما أصبح له جيش حديث على الطراز الغربي ومعه أسطول لا بأس به ينافس به القوى المتوسطة في أوروبا. وقد نصره الله على عدوه اللدود الملك شارل الثاني عشر في معركة بولتافا الشهيرة في عام 1708 التي حسمت نهائيا الأطماع السويدية في الأراضي الروسية وجعلت روسيا القوة البحرية الأساسية في الشمال وفي بحر البلطيق.
لقد استعرضت كل هذه الحقائق وأنا أخرج من محطة قطار سان بطرسبورغ، وقد كنت على يقين من أنني على لقاء مع التاريخ الذي شممت رائحته منذ أول دقيقة وطأت فيها قدماي المدينة، فهي مدينة لا تختلف شكلا أو موضوعا عن العواصم الأوروبية الكبرى، بل لها طابعها الخاص الجميل سواء من حيث المعمار أو الروح العامة لروسيا؛ فمن المباني ومعمارها يشعر الإنسان أنه في القرن الثامن عشر في أي دولة أوروبية. وقد وجدت نفسي أزور معظم أنحاء هذه المدينة الجميلة ومبانيها المختلفة التي عكست عظمة هذه الدولة العريقة وعبقرية بطرس الأكبر وبعض القياصرة من بعده، وقد تأثرت كثيرا في الساعات التي قضيتها في القصر الخاص ببطرس الأكبر (Peter Hoff)، الذي يبعد عن وسط المدينة قرابة 40 كيلومترا، فهو بكل تأكيد محاولة لتقليد قصر فرساي في فرنسا، ووضح من خلال معماره أنه يعكس الرغبة والتصميم لدى بطرس لجعل العاصمة الجديدة على الطراز المعماري الأوروبي حتى لا تكون روسيا أقل من أي دولة أوروبية أخرى، بل إن مصمم الحديقة الخاصة به كان أحد تلاميذ المهندس الذي شيد هذا قصر فرساي ذاته.
وعند خروجي من هذا القصر العظيم وجدت نفسي أصطدم بحقيقية كنت أعرفها، ولكنني لم أدركها إلا بعد زيارة المدينة والتعلم من تاريخها، فهذه المدينة تعتبر في تقديري نموذجا قليل الوجود للمدن التي تبنى لتغيير المجرى الثقافي لدولة، فسان بطرسبورغ نموذج واقعي للانتقال الحضاري والثقافي آنذاك في روسيا، فهي تعبير عن الحداثة والخروج من العزلة الثقافية والفكرية التي كانت سائدة في روسيا وموسكو، فالمدينة ليست معمارا أو شكلا أو حتى طرازا مختلفا، ولكنها تمثل فكرة وفعل جسد مفهوم التنوير الذي يختلف تماما عن المدن الروسية الأخرى، وقد ساعدها على ذلك أن الله منّ على روسيا بإمبراطورة اسمها كاثرين الكبرى استطاعت أن تستكمل بناء المدينة وتمنحها الوهج الثقافي والمعماري والثقافي العظيم الذي هي عليه اليوم.
وقد وجدت نفسي أقف أمام تمثال كبير يسمي «الفارس البرونزي» وهو لشخصية ضخمة للغاية طويل القامة عريض المنكبين، وهو لبطرس الأكبر، تم إنشاؤه في عهد القيصرة كاثرين الكبرى تخليدا لذكرى مؤسس المدينة، وقد وقفت أمامه متأملا شخصية هذا الرجل العظيم الذي يصعب أن يجود التاريخ بمثله على الدول. وحقيقة الأمر أنني فقدت السيطرة على الزمن ولم يخرجني من حالة الخيال التاريخي والاندهاش والإعجاب إلا شدة البرودة التي زادتني احتراما لبطرس الأكبر الذي استطاع أن يتحدى كل العوامل الطبيعية القاسية في روسيا ليبني هذه المدينة في أسرع وقت اندفاعا خلف حلمه القومي والتنويري لبلاده الحبيبة. ولكنني لم أخرج من هذه الانتعاشة التاريخية إلا وأنا مدرك ليقين بداخلي بدأ يساعدني على إعادة رؤية التاريخ من خلال هذا الرجل ومدينته الجميلة، وهو أن حكام الشعوب في بعض المناسبات قد تكون لهم رؤية أكبر وأعمق من الشعوب التي يحكمونها، خاصة إذا ما تميزت هذه المجتمعات بالتخلف أو العزلة كما كانت روسيا أثناء عهد بطرس الأكبر، وهنا أدركت عظمة المنحة الإلهية للدول عندما يضع لها المولى عز وجل من يقوم بتطويرها ويدفع شعبها نحو الرقي والتحضر، وهي قناعة أدركتها كلما مررت بهذه المدينة الجميلة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.