وفيق السامرائي
ضابط متقاعد وخبير استراتيجيّ عراقيّ
TT

الأنبار.. من الفتنة إلى التخريب

عندما بدأت الاحتجاجات في الأنبار كتبت مقالا وصفت فيه ما يحدث بـ«فتنة الأنبار»، وكان أسوأ ما في الاحتجاجات أن يتصدر واجهتها رجال دين لا تزال أعمارهم دون مستوى التأهيل العلمي والثقافي والديني المطلوب للتصدي لمسؤوليات كبيرة ترتبط بمعادلات محلية وإقليمية ودولية معقدة. وإلى جانب هؤلاء وقف سياسيون من قصيري النظر بعضهم كان على صلة بالإرهاب فعلا. ووقف إلى جانبهم أيضا كل من له مصلحة بتفتيت العراق وتخريبه من حملة الهوية العراقية وغيرهم ممن بالغوا كثيرا في تبني سياسات دولية أكبر كثيرا من كياناتهم وقدرات أجهزتهم.
ومن البداية، كانت الصورة واضحة، ولم يكن من شك في أن الاحتجاجات ستؤدي إلى تصادم تختل فيه المعادلات لصالح توسع «داعش» من سوريا إلى العراق. وكان الخطأ المركزي الأول هو الخضوع لرغبات سياسيين يجهلون قراءة مقدمات الحروب أو من ذوي الغرض السيئ، في عدم تعقب «الدواعش» في لحظة «غزوهم» الفلوجة، فتكونت قاعدة تمرد خطيرة وقف إلى جانبها السياسيون من وجوه الاعتصامات أنفسهم، وجرى رفع شعارات استفزت كل من يحمل شعورا وطنيا وحدويا متحضرا، و«أجاد» الغوغاء في كسر «قيود» الالتزامات الوطنية، وأوجدوا حالات غريبة من الخلافات المصطنعة.
وعندما سقطت الموصل وتكريت وتبعتهما مناطق أخرى، حاول هؤلاء الأشخاص من السياسيين والمعممين ركوب الموجة، إلى جانب بعض الصداميين، إلا أنهم أثبتوا سذاجة مفرطة تنحدر إلى قاع الغباء، بعد أن ركلهم «الدواعش» فأصبحوا في وضع لا يحسدون عليه، لأن قوانين العفو لا يمكن أن تزيل عنهم صبغة الخذلان والمساهمة في أسباب التخريب.
وسقطت الموصل - ثاني أكبر مدينة عراقية - على يد «الدواعش»، والحقيقة التي لا لبس فيها هي أن كل الأطراف من دون استثناء فشلت في شن عمليات مقاومة على طريق تحرير المدينة، وما قيل عن كتائب ثوار بقي بلا دليل تنفيذي. وتبدو الصورة مرتبكة في كيفية تعايش شرائح المدينة بعد حملات التفكيك العرقي والديني والطائفي المتعمدة، بعد أن كانت تعطي مثالا عن حالة متقدمة من التعايش الإنساني. وكلما حصل تخلخل أمني كبير في مناطق أخرى، تلبدت توقيتات تحرير الموصل، فما يحدث في الأنبار ينعكس على مستقبل الموصل، ليس من منطلق ارتباطات هي بالأساس عادية، بل بسبب التأثير على القدرة المركزية على المناورة المقررة.
وبعد سلسلة من النجاحات المركزية المهمة في قواطع عمليات عدة، حدثت هجمات «داعشية» تستهدف مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار، وثبت أن الخلايا النائمة لا يستهان بها في الرمادي وقصبات محيطة بها، واستنفرت عشائر محلية جهودها للقتال إلى جانب القوات المسلحة، إلا أن صعوبة وصول الإمدادات البرية تركت أثرا معرقلا لعملية حسم سريع. وظهر معظم سياسيي الأنبار مصدومين وفي عزلة حقيقية عما يجري على الأرض، ولم يظهر أحد منهم في مناطق العمليات مقاتلا أو حتى زائرا، كما قيل عن ظهور الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني في عمليات شمال شرقي بغداد وجنوبها، أو كما ظهر رئيس منظمة بدر النائب هادي العامري ووزير الداخلية في أكثر من قاطع عمليات ساخن.
ومع تصاعد القتال وعمليات الثأر وانتشار العداوات بين عشائر الأنبار، تراجعت آمال النازحين في عودة سريعة إلى بيوتهم إلا أن النصر على «الدواعش» مؤكد، وثبت أن الوحدة المناطقية وفق أسس طائفية كذبة روج لها السياسيون الفاشلون والطائفيون والتفكيكيون، وثبت على أرض الواقع أن الوحدة الوطنية هي الخيار الوحيد في عمليات المجابهة المصيرية، وأن القوات المسلحة الوطنية هي التي تمثل التجسيد الحي للوحدة المجتمعية. وما وقع على أهل الفلوجة دفع ثمنه أهلها، وهكذا هو حال المدن التي وقعت في دائرة الحرب المباشرة.
لم يكن سهلا إقناع الناس إعلاميا بخطورة «الدواعش»، إلا أن جرائم هؤلاء لم تنعكس ضدهم فقط، بل على مثيري الفتنة من السياسيين والجهلاء والمحرضين والطائفيين ومن المتلاعبين بمصير الناس، خصوصا من تواروا وهربوا من ميادين الصراع بما في ذلك الميدان الإعلامي. وأمام هذا الوضع المعقد، لا بد من اتباع الخيارات السلمية والتفاهمات السياسية المعقولة بعيدا عن التصعيد، خصوصا بعد أن أسكتت المناصب السياسيين الذين أثبتوا فشلهم ومزايداتهم على حساب مصير الفقراء والأبرياء والوحدة.