تعرض الآن على مسرح الباربيكان بلندن مسرحية «البطة البرية» للكاتب المسرحي النرويجي الشهير هنريك إبسن، التي اقتبسها ويخرجها المخرج الأسترالي سيمون ستون بالتعاون مع كريس ريان، وهو اقتباس أسقطاه على حياتنا المعاصرة. تفتتح المسرحية ببطة حقيقية على خشبة المسرح. والبطة لها رمزية قوية في النص الأصلي، وخيار وجود بطة حية على الخشبة فعّل هذه الرمزية، وأضفى عنصرا قويا من الجمالية والدهشة. فنراها تتمشى على الخشبة التي أحيطت بشكل شبه كامل بزجاج، حتى بدت كغرفة أو بيت من زجاج.
استطاع المخرج بشكل لافت وقوي أن يستدرج نص إبسن إلى الواقع الحالي، فخلق عالما جديدا أنسانا أحيانا أثناء مشاهدة العرض معرفتنا بالنص الأصلي الذي استند إليه.
إيقاع العرض الذي يمتد إلى 90 دقيقة سريع ومتقطع يشبه إيقاع الحياة العصرية في يومنا هذا. قُدّم على شكل مشاهد متتالية ومنفصلة مع الإشارة في بداية كل مشهد إلى تاريخ اليوم والساعة التي تجري فيها الأحداث، وقد ساهم هذا بلفت الانتباه إلى أهمية عامل الوقت، وعلاقتنا به في العصر الحديث، كما استعمل الموسيقى الكلاسيكية التي أضفت بدورها طابعا جميلا كان منسجما مع الجو العام. ما عدا في بعض اللحظات الدرامية الحاسمة حين استعمل موسيقى الروك الإلكترونية، وكانت أيضا متناسبة مع الجوّ المشحون.
أما بالنسبة للشخصيات، فقد عمل المخرج على مقاربة كل شخصية من شخصيات مسرحية ابسن إلى نماذج وأنماط متكررة في حياتنا اليومية. ويلعب الممثل دان ويلّي دور غريغرز، الذي هو المحرك الأساسي لمجريات الأحداث. يقرر غريغرز أن يعود من سفره ليكشف ألاعيب والده رجل الأعمال الذي تسبب بانتحار زوجته والدة غريغرز وجعل من عائلة إكدال ضحية بسبب طمعه وأنانيته. يضيء المخرج هنا شخصية رجل الأعمال الحديثة الذي تسمح له ثروته بالتلاعب بحياة من حوله، والذي لا يستطيع أن يرى الحياة والعلاقات إلا من وجهة نظر مادية تدور كلها في فلكه. يصر غريغرز على كشف الحقيقة حتى لو أدى ذلك إلى تحطيم وتفكيك عائلة إكدال. يرى أن حياتهم كلها مبنية على الكذب والخداع، ويؤمن بالمواجهة كضرورة للحل. تتطور الأحداث خلال مدة العرض وتتصاعد إلى أن يكتشف يالمار خيانة زوجته له مع والد غريغرز في الماضي، وحين يكتشف أيضا أن ابنته هي ابنة والد غريغرز. يهملها فجأة ويترك المنزل، تنتحر الابنة في النهاية وينفصل هو عن زوجته التي كانت تتوسل إليه الغفران وتحاول إقناعه أن ما جرى في الماضي أصبح ماضيا وهي الآن تحبه وتحب عائلتها.
الخيار السينوغرافي الذي تمثل بوضع حيطان زجاجية على الخشبة خيار جميل، وتدور معظم أحداث المسرحية داخل هذه الغرفة أو البيت الزجاجي. يعطي الزجاج انطباعا يشير إلى هشاشة تركيبة العائلة، ويلمح بطريقة أو بأخرى إلى الخفايا التي تسيطر على طابع العلاقات الشائكة بين الشخصيات. في نهاية العرض فقط نرى غريغر وزوجته خارج الغرفة، فيبدو لنا كأنهما خرجا من الفقاعة التي كانا يعيشان فيها.
لعب الممثلون أدوارهم بشكل جميل، خاصة ممثل شخصية يالمار الذي أدى دوره بشكل رائع وكان محورا في العرض، إذ مثل شخصية الرجل العادي الذي يعاني من صعوبات مادية جعلته وعائلته مرهونين لرجل الأعمال، وجعلت منه بشكل مباشر أو غير مباشر مغفلا بسبب ارتهانه هذا.
نرى الشخصيات في بعض المشاهد تستعمل الأدوات الإلكترونية الحديثة كاللابتوب والتليفون، أكدّ هذا الأمر للمشاهد على حصول أحداث المسرحية في يومنا هذا، ونجح بذلك المخرج بربط النص الأصلي وتقريبه إلى الحياة اليومية في العصر الحديث.
أما بالنسبة للإضاءة، فنراها تتغير من اللون الدافئ إلى اللون البارد في لحظات مختلفة من العرض تتناسب مع مجريات الأحداث. كان خيار الإضاءة هذا يشبه أيضا خيارات أخرى من حيث البساطة والدقة. كل هذه العوامل أدّت إلى خلق جو متناسق جعلت من العرض عرضا جميلا ومتماسكا نستمتع برؤيته حتى النهاية.
* مسرحية لبنانية تعيش في لندن