رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

الاعتدال السعودي والهياج الداعشي والطائفي

شهدت مدننا العربية يوم الثلاثاء الماضي، ومن بغداد والنجف وكربلاء إلى دمشق، وبيروت، وصنعاء، والكويت، والبحرين، بل وإلى حي الجمالية بالقاهرة بجوار الحسين والأزهر، البعض من شاطبي الرؤوس وضاربي الصدور، بمناسبة عاشوراء، ذكرى استشهاد الإمام الحسين بجوار الكوفة بالعراق في مواجهة عسكر أموي، عام 61 هـ/ 680 - 681 م.
والشيعة يحتفون بذكرى المأساة منذ القرن الرابع الهجري. وقد استجدت «الشعائر الحسينية» على الشيعة اللبنانيين في أربعينات وخمسينات القرن العشرين مستوردة من إيران والعراق. وبسبب علاقتها برمزيات المذهب واستمراره؛ فإنها ما كانت تثير سخط أحد أو استنكاره، باستثناء كبار علماء المذهب الجعفري، الذين كانوا، ولا يزالون، ينكرون على العامة والمهيجين التطبير (ضرب الرؤوس بالفؤوس) وتمزيق الثياب، وإدماء الصدور. ولكي لا نطيل في التفاصيل التاريخية والدلالات، نقول إن الأمر تغير بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، فتحت الإشراف والتشكيل الإيراني، وإعادة التنشئة والتوجيه حتى لزيدية اليمن، صارت الميليشيات باسم آل البيت والعاشورائيات صناعة للانقسامات داخل المجتمعات العربية بين الشيعة والسنة، كما صارت - في هذا العام والأعوام السابقة - احتفالات بانتصارات (يعني الخامنئي وميليشياته المنشورة في العالم العربي) على الخصوم المسلمين الآخرين وبزعم الثأر للحسين! ففي الوقت الذي كنا نشهد فيه حشود عاشوراء في أحياء دمشق الداخلية (وليس بينهم سوري واحد، بل هم ممن أتوا «للثأر» من الشعب السوري واستقدمهم رئيسه!)، أتت على هواتفنا رسالة من «مجمع آل البيت» نصها: «أعظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين عليه السلام، وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع وليه الإمام المهدي من آل محمد عليهم السلام»!
وبالطبع ما كان أهل الشام ممن شارك في قتل الحسين، بل هم أناس حشدهم والي الكوفة من أهلها وقبائلها، ثم إن كل الذين شاركوا في قتال الحسين قتلهم المختار الثقفي بعد ست سنوات على وقعة كربلاء. أما الأسرة الأموية؛ فإن كل أحيائها قتلهم أبو العباس السفاح، أما عمه عبد الله بن علي فنبش قبور أمواتهم من دمشق إلى الرقة بشمال سوريا اليوم! ولماذا نبذل كل هذا الجهد في إبطال دعوى الثأر وضروراتها؟ وظلت عاشوراء إنكارا للظلم وخروجا عليه، لما ذهبت الميليشيات الإيرانية وفي طليعتها «حزب الله» لمقاتلة التكفيريين (أي الشعب السوري) مع بشار الأسد الذي قتل ربع مليون سوري، وشرد عشرة ملايين. ولذا، فإن الحرب التي تشنها ميليشيات إيران في العالم العربي، هي حرب طائفية بحتة لكي تجعل الحياة مستحيلة بين الشيعة والسنة في البلدان التي يعيشون فيها معا.
قال حسن نصر الله في الأسبوع الماضي إن المملكة العربية السعودية أصل للإرهاب وراعية له. وهي دعوى تكررت منه، ومن مسؤولين إيرانيين عبر السنوات الماضية، فكلما استولت الميليشيات الإيرانية على مدينة أو بلد، وتذمرت المملكة، أو ثار بعض أهل تلك الديار المحتلة، يسارع صناع الإرهاب (وليس رعاته فقط) إلى اتهام المملكة. ولذا، ولأن تصريح نصر الله ذاك ما لقي قبولا من أحد، بل كان هناك من نبهه إلى أن كل البلاد العربية التي تخربت، فإنما كان سبب خرابها تدخلات إيران وميليشياتها (!)؛ فإنه تذكر ليبيا هذا الأسبوع، وقال إنه ليس لإيران يد في الصراع فيها، وكذلك الصراع في سيناء!
إن الواقع أن النهج الإيراني والمقاصد الإيرانية شيء، ونهج الاعتدال السعودي شيء آخر، فالملك عبد الله بن عبد العزيز، في تنبيهه لأخطار الإرهاب وتجدده منذ عام 2007، ما كان يقصد إلى تنبيه الغربيين والمجتمع الدولي إلى تداعيات ما جنته أيديهم فقط؛ بل كان ينبه العرب والمسلمين أيضا سنة وشيعة، إلى أن الاعتدال، وحرمة الدم والعرض والممتلكات، والسلم الأهلي؛ كل ذلك مصلحة أولى لهم وينبغي أن تكون غالبة على الاعتبارات الأخرى. لقد كانت التدخلات الأميركية فظيعة ومثيرة، والتدخلات الإيرانية أفظع وأشد هولا واستثارة للجميع، لأنها آتية من داخل. بيد أن الرد عليها لا يكون بالأسلوب نفسه، الذي يزيد الجرح عمقا واتساعا، ويخرب البلدان والعمران؛ بل بالانضباط والانتظام في تقاليد وأعراف جماعة المسلمين، وتقوية الدولة الحامية والراعية، والتأبي على الانشقاقيات والعشوائيات. فكيف تصبح «خلافة» الجماعة والرحمة داعية للقتل والإبادة والتخريب، وكيف تصبح عاشوراء رمز الخروج على الظلم، مسوغا لقتل الناس وتدمير عمرانهم مع الأسد والمالكي وسليماني والحوثي في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟!
إن دعوة وسياسة الاعتدال السعودي تنطلق من فهم واقع العرب باعتباره معرضا لاستنزافين؛ كلاهما داخلي، أو أنه داخل تابع لاستدراجات الخارج وإغواءاته: الأصوليات السياسية والقاعدية والداعشية، والوعي المستجد والإمامي والملحمي لدى الفئات التي أعادت تربيتها إيران لتستخدمها لمصالحها ومناطق نفوذها. ومما لا شك فيه أن الأصوليات عند السنة، تشبه الوعي الذي أنتج ولاية الفقيه عند الشيعة. لكن في حين استطاع ذاك الوعي أن يستولي في الدولة الإيرانية، ما استطاع الأصوليون السياسيون والجهاديون عند السنة الاستيلاء على إدارة الشأن العام في دول كبرى أو الاستقرار فيها. وكما أنتج الإيرانيون ميليشيات «لتصدير الثورة»؛ فإن الأصوليين السنة العاجزين عن الاستيلاء على السلطة، أنتجوا بدورهم ميليشيات وهي في الأصل ضد السلطات، لكنها، وفي السنوات القليلة الماضية، صارت تصادم الميليشيات الشيعية أيضا من أجل النفوذ والسيطرة على الأذهان والمناطق. وكانت نتيجة ذلك هذا الخراب الهائل الذي تنشره ميليشيات الأصوليتين في أربع أو خمس أو ست دول عربية، وبسبب اختراقات الأجهزة، والتدخل الخارجي.
لقد كان بوسع الملك عبد الله بن عبد العزيز، لو لم يكن خادم الحرمين (المنوط به حماية وحدة الدين)، ورأس الدولة السعودية (المنوط بها حماية وحدة الأمة) أن يستعين بإحدى الأصوليتين على الأخرى؛ لكنه، وهو ولي الأمر، آثر أن يحفظ الجميع بالوقوف في وجه الإرهاب، والإرهاب القاعدي والداعشي أولا، لأنه خطر على الدين والدولة والعالم، وأن يساعد المجتمعات والدول على الصمود في وجه الإرهاب الإيراني، والطغاة الذين تدعمهم إيران.
إن نهج الاعتدال السعودي هو نهج صعب، ولا تستطيع سلوكه وتحويله إلى سياسات في الدين والتربية وإدارة الشأن العام، والدبلوماسية، غير الدول القوية ذات الرؤية المستقبلية. أما النهج الآخر الواقع بين الخلافة والإمامة، فدأبه، أو دأبهما، القتل والثأر والكراهية والتكفير:
أريد حياته ويريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد