سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

باب الصيدلية

ذهبت بعد ظهر السبت إلى الصيدلية في جنيف، غير عارف أن عطلة نهاية الأسبوع قد بدأت. حاولت الدخول فإذا الباب الزجاجي مُغلق. أكملت إلى صيدلية أخرى والمشهد واحد: باب زجاجي مغلق على بضاعة تساوي مئات الألوف. لا حدائد، لا أقفال، ولا تحذيرات من كاميرا خفية.
برغم ارتفاع عدد سكانها من 400 ألف نسمة إلى مليون ومائتي ألف نسمة، لا تزال مدينة البحيرة آمنة، ليس كما قبل؛ أي الأمان شبه المطلق، ولكن في القياس النسبي، لا تزال سويسرا في الطليعة. هنا كان المنفيّون السياسيون يشعرون أن أعداءهم لا يستطيعون الوصول إليهم، من لينين إلى زعماء الثورة الجزائرية.
ذكرتني الصيدليات المغلقة بالزجاج، بالستينات في بيروت، كان لكل منزل مفتاح واحد يحمله رب البيت، أما الباقون من أفراد الأسرة فكانوا يفتحون «الطاقة» ويمدّون اليد إلى القفل. وادخلوا بيوتكم آمنين. وعندما سافرت إلى الكويت لم تكن البيوت تُترك مفتوحة عندما يغيب أصحابها، بل المخازن ومحلات الصاغة، ولم يكن أحد يقفل سيارته.
تغيّر الزمن، وثمّة من حطم باب الكويت كلها. ولم تعد في العالم العربي عاصمة آمنة، وتشرد الأهالي، وحل الغرباء في البيوت، وصارت السيارات تفخّخ أمام منازل أصحابها كي تقتلهم أو كي يقتل بها الآخرون مثل طائرات 11 سبتمبر (أيلول). كيف ستبقى أمة لم يعد لها سبيل سوى القتل، وغاية سوى التدمير، وتزدري الدعوة إلى السلام، والمصالحة، والوحدة؟
نزل 3 ملايين مصري إلى ميدان التحرير يعترضون على بقاء حسني مبارك يوما إضافيا، ولم تقم من أي عاصمة عربية مظاهرة من 5 أشخاص احتجاجا على قطع الأعناق، وسبي النساء، ودعارة القاصرات، والفقر، والجوع. نحن بلاد تجمع السلاح للقتلة، وليس بيننا جمعية تلم الخبز للأيتام. نحن نخجل في طلب المساعدة للمحتاجين، ونفاخر بطلب السلاح، ونتباهى بأفلام قطع الرؤوس.
ولم ننسَ مرة أن نرفق أشرطة القتل بقصائد من عيون الشعر. لم يلقِ شاعر جاهلي قصيدة فوق قتيله. لم نقرأ على مدى التاريخ ما نقرأه في «دابق» اليوم.
تذكّرنا صيدليات جنيف، التي ليست لها أبواب مقوّاة، بأيام كانت أبوابنا بلا أقفال. وعندما يقول لك رجل إنه يحن إلى الماضي برغم القلّة والتعب وندرة الرزق، يجب أن تفهمه، إنه يحن إلى السكينة كلما رأى بلدا يسقط على رؤوس بنيه.