سألت صديقا من مخرجي الجيل الجديد حقق حتى الآن فيلمين قصيرين، عن السبب الذي يجنح به لاستخدام الكاميرا المحمولة. قال: «ولم لا؟». أجبته أن السؤال هو: «لماذا؟» وليس «لماذا لا؟». فرد: «لأني أريد أن أمنح حكاياتي لمسة تسجيلية وإحساسا بالمكان وبالواقع».
- لكنك لا تنقل حكاية واقعية ولا عملا تسجيليا.. فرد على ذلك بالقول: «وهل هذا شرط؟»
تذكرت ذلك وأنا أتابع فيلما قصيرا وصل إلي أمس على أسطوانة لمخرج آخر. يفتح الفيلم على 3 أولاد يركضون.. الكاميرا تركض وراءهم.. يتوقفون.. تتوقف.. يعاودون الركض.. تركض. في مشهد آخر، نراها تلعب كرة القدم أيضا، فالمصور دخل بها بين أقدام الصبية الذين يرفسونها وأخذ يركض وراءها. مناسبة للمعرفة إذا لم تكن تعلم بعد ما هي كرة القدم وكيف تتدحرج، أو إذا كنت تريد أن تدرس علاقة الأقدام بالرفس وكيف تحتار الكرة في كيفية الاستجابة لرفسة من هنا ورفسة من هناك.
لدي قناعة بأن معظم المخرجين الذين يحققون أفلامهم اليوم (وبينهم من يحقق أفلاما طويلة) بكاميرا محمولة تلهث وتركض وتهتز وترتجف كما كان المصور عاريا من الملابس فوق الجبال الشمالية في عز البرد، لا يعرفون شيئا يذكر عن الإخراج برمته. جزء من العمل مخرجا أن تعرف لماذا تفعل أي شيء.. لماذا تصور أي لقطة، ولماذا من هذه الزاوية وليس تلك، أو بذلك الحجم وليس بحجم مختلف. وغائب تماما أيضا علم التفكير بالمنهج السردي المطلوب لحكي القصة أو الموقف.. متى ولماذا تقطع المشهد إلى لقطات، وما الذي تستخدمه منها في غرفة المونتاج وبناء على ماذا.
الكاميرا المحمولة مصيبة وحلّتْ على الفن السينمائي. طبعا هناك مخرجون قادرون على معرفة كيفية استخدامها ويحددون لمديري تصويرهم ماذا يريدون منها ولماذا يريدونه على النحو المطلوب، لكن الغالبية تلغي العمل الإبداعي الشاق المؤلف من عناصر تكوين المشهد وفن سرده وتقطيعه مستفيدة من سهولة خادعة قوامها حمل الكاميرا والتصوير في لقطة واحدة تكبر وتصغر وتنتقل وتستدير وتعلو وتهبط من دون الحاجة إلى قطع. وهؤلاء يغطون عدم إدراكهم فن الإخراج ولغته بذلك السبيل من التصوير معتبرين أنه «أسلوب آخر من الفن».
لا الفن ولا الواقعية لهما علاقة بهذا الشكل الارتجالي من العمل. أساسا مهما كنت «واقعيا»، فلا زلت تمارس واقعية مفترضة وليست حقيقية. حتى ولو جلبت ممثلين غير محترفين وصورت في أماكن بلا ديكورات، فأنت لا زلت تروي حكاية تصورها حسب سيناريو مكتوب (إذا لم يكن مكتوبا فهذه مصيبة أخرى) تستخرج منها مواقف تختلف عما قد يقع في العالم الواقعي. وكثير مما يُطلق عليه «وثائقي» أو «تسجيلي» ما عاد لا وثائقيا ولا تسجيليا، لأن مزيدا من المخرجين يتدخلون فيما هو «واقعي» على طريقة: «ستقفون تحت ضوء مصباح الشارع وستتحدثون عما وقع لكم».. هذا إخراج افتراضي والشخصيات «الواقعية» صار عليها أن تمثل.
في زمن صار كل مبتدئ يعد نفسه مخرجا لم ينجز التاريخ مثله، بات من الضروري العودة إلى الجذور. معظم المخرجين لا يشاهدون أكثر من حفنة أفلام في السنة. كلها جديدة وبعضها من ذلك الإسهال التجاري المعروض على شاشات التلفزيون. إذا لم يعد إلى الجذور فلن يصل إلى المستقبل. كل ما يفعله هو دوران حول نفسه إلى أن يتعب ويتوقف. لكن تلك العودة من دون فهم كامل لماهية السينما وما المطلوب منه حيالها، لن تسهم إلا بقدر محدود.. فالأساس هو الإجابة عن السؤال التالي: هل أستطيع أن أكون مخرجا كبيرا مثل كوبولا وكوبريك وكمال الشيخ أو صلاح أبو سيف أو أكيرا كورساوا أو جاك ريفيت أو أنطونيوني أو فيلليني، أم لا؟ ارفع السقف تنجح.
المشهد - ارفع السقف
المشهد - ارفع السقف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة