من التاريخ: مصر وإرهاب الحشاشين

من التاريخ: مصر وإرهاب الحشاشين
TT

من التاريخ: مصر وإرهاب الحشاشين

من التاريخ: مصر وإرهاب الحشاشين

لا يختلف شأن الحشاشين عن المجموعات الإجرامية أو الإرهابية أو بؤر الإرهاب التي تنتشر في العالم، فتنظيمهم ووجودهم قد ارتبط بعدد من الأساسيات التي تبدو وكأنها لا تختلف من زمن إلى زمن، فهم جماعة آيديولوجية واضحة الفكر والمعالم، فلقد كانوا من الإسماعيلية وكان هدفهم تقويض النظام السني القائم في فارس والشام ومصر، كما أن هذا التنظيم الكبير كانت له معاقله ممثلة في القلاع التي كانوا يحكمونها في الشام والتي كانت بعيدة عن متناول سيطرة الدول المختلفة، وكانت لهذا التنظيم قيادة واضحة وخلاياه القائمة والنائمة في مناطق مختلفة، كما أنهم وضعوا نظاما عنقوديا لعملياتهم، لكن الملاحظة التي لعلها تكون فريدة من نوعها هي أن هذا الكيان الإرهابي المنظم ربما يكون الأول في التاريخ الذي دخل مباشرة حلبة توازنات القوة داخل نظام العلاقات الدولية الإقليمية، فلقد ربطته بالدول والدويلات الإسلامية والصليبية على مدى أكثر من قرنين من الزمان تحالفات كما لو أن الحشاشين كانوا طرفا في المعادلة السياسية الإقليمية، على الرغم من أنهم لا يمثلون دولة.
أيا كانت الرؤية والدور السياسي والديني الذي لعبه الحشاشون في التاريخ الإسلامي على مدار ثلاثة قرون في الشام، فإن الثابت هو أن نجاحهم أو فشلهم هناك ارتبط بشكل أو بآخر بمصر، ويبدو أن مصر كان لها دورها المؤثر على سلوك ومستقبل هذا التنظيم، وهو ما يجعلنا هنا نضع عددا من النقاط المحورية التي قد تعكس حقائق أساسية لها دلالاتها إلى يومنا هذا:
أولا: على الرغم من أن بداية الحشاشين جاءت في شمال بلاد فارس، فإن هذه الحركة ارتبطت بحبل سُري واضح مع القاهرة، فلقد كانت تحكم مصر آنذاك الدولة الفاطمية وكانت إسماعيلية المذهب، وكانت على اتصال مباشر وواضح بمؤسس الفرقة الحسن بن الصباح على الرغم من بُعد المسافة بينهما، وكان الأخير يتبعها آيديولوجيا، بل إنه عاش في مصر فترة من الزمن قبل عودته إلى فارس، وهذا في حد ذاته منح هذا التنظيم قوة ودلالة سياسية مهمة، فضلا عن غطاء شرعي قوي للغاية في ذلك الوقت لارتباطهم بأقوى دولة إسلامية آنذاك. وقد وقع الانشقاق الآيديولوجي بين القاهرة و«قلعة الموت» في شمال فارس في نهاية القرن الحادي عشر بسبب إصرار الأخيرة على الاعتراف بإمامة ابن الخليفة المتوفى «نزار» وإصرارهم على توليته بدلا من أخيه ودعمهم لسلالته. كان ذلك عندما اشتد عود الحركة وأصبحت قادرة على الاستقلال الآيديولوجي قبل السياسي، وهو ما أدخلها في صراع فكري أدى لاغتيال الحشاشين قائد الجيوش الفاطمية الذي ناصبهم العداء وصفى جيوبهم ومريديهم في القاهرة، وعلى الرغم من مناصبة العداء للخلافة الفاطمية في مصر خاصة بعد بداية ضعف هذه الخلافة، فإن وجود دولة شيعية - إسماعيلية في مصر كان له أثره في منح هذه الطائفة زخما كبيرا حتى مع الفوارق السياسية التي بدأت تظهر.
ثانيا: إن المد «الحشاشي» إلى بلاد الشام خلال الفترة الأولى من القرن الثاني عشر على مدار قرنين من الزمان كان دافعه المباشر سعيهم لنشر الدعوة، لكن انتعاشهم السياسي والعملياتي جاء بشكل مباشر نتيجة ضعف الدولة المصرية في ذلك الوقت وارتباكها، وضعف القوة المركزية في فارس بسبب ضعف الدولة السلجوقية، وفي الشام بعد ضعف الدولة المصرية ودخولها المرحلة الانتقالية من نهاية العصر الفاطمي وفي منتصف العصر الأيوبي، وقد ساعدهم أيضا على ذلك انتشار الحملات الصليبية والتي جعلت من الشام مركزا للصراع الدولي بين أقطاب النظام الدولي، ولكن ما يهمنا إبرازه هنا هو أن مصر كانت سندا آيديولوجيا مهما للطائفة الإسماعيلية حتى قبيل التحول الآيديولوجي فيها بعد سقوط الخلافة الفاطمية، وهو ما مهد الطريق أمام قبول المذهب العقائدي للحشاشين وفتح المجال أمام تجنيد العناصر المختلفة وزيادة أتباعها بطبيعة الحال، فالفكر الاسماعيلي لم يكن غريبا على الإقليم ككل بسبب الدولة الفاطمية.
ثالثا: مثلت عملية تحويل مصر وبتر التشيع الإسماعيلي فيها وإعادتها إلى طبيعتها السنية على أيدي صلاح الدين سحبا واضحا لغطاء آيديولوجي مهم من هذه الفرقة، لكنه لم يقض عليها، بل جعلها بؤرة شيعية منعزلة في عالم سني المذهب والفكر، وعلى الرغم من القوة السياسية للدولة الأيوبية إبان حكم صلاح الدين، فإنه لم يستطع القضاء على الحشاشين لأسباب تتعلق بالحروب الصليبية في الأساس، خاصة مع تحالفاتهم السياسية مع الصليبيين، ودفع هذا صلاح الدين لمحاولة استمالتهم لخدمة غرضه القومي بالقضاء على الصليبيين، وفي هذا الصدد تصاغ الروايات التاريخية المختلفة والمختلقة في أغلبيتها لشرح كيف حاول صلاح الدين اغتيال الزعماء الصليبيين، ولكن في مجمل الأمور أمن صلاح الدين شرهم وتفرغ لمحاربة الخطر الأكبر، فالتخلص من الاحتلال يُرفع على درء البؤر الإرهابية في أغلب الظروف.
رابعا: استمر وجود الحشاشين وقيامهم بلعب دورهم الملحوظ طالما استمر عاملان أساسيان مرتبطين ببعضهم بعضا، فالأول الصراع الدولي وعلى رأسه الصليبي في المنطقة، والثاني الضعف النسبي لدولة مصر، فمع ضعف خلفاء صلاح الدين وتقاعس بعضهم بل وتحالفهم مع الصليبيين، أصبح الحشاشون أفضل حالا، وسمحت لهم هذه الظروف بالتحالفات مع القوى المختلفة، باستثناء قوة المغول بطبيعية الحال لأنهم من قضوا على الوجود الإسماعيلي في فارس عام 1256، ولكن مع زوال العنصرين بدأ المد «الحشاشي» يتراجع بشكل ملحوظ وسريع، فبمجرد أن قويت شوكة مصر بشكل واضح وصريح، انقلبت المعادلة السياسية الإقليمية، فلقد سيطرت الدولة المملوكية بقيادة «سيف الدين قطز» على الأوضاع الإقليمية، فهزمت المغول في معركة «عين جالوت».
وبمجرد تولي «الظاهر بيبرس» مقاليد الحكم في مصر، أعاد هذا القائد الفذ الدور الإقليمي المصري بكل قوته، وبدأ ذلك ينعكس على الفور على المنطقة ككل، خاصة في ما يتعلق بالحشاشين ومستقبلهم السياسي فيها، فلقد اتبع معهم الرجل سياسة تصفية واضحة وممنهجة، فبدأ بفرض سطوته عليهم، ومن الواضح أن قدرة مصر على التصفية شبه الكاملة للصليبيين في عهده كان لها أكبر الأثر في كسر شوكة الحشاشين، فلقد أخرجهم من المعادلة السياسية الإقليمية وسحب حليفا مؤقتا وتكتيكيا منهم، كما أن البأس العسكري المصري وقوة عمال «بيبرس» في الشام فتحا المجال أمام القضاء على نفوذهم كخطوة أولى ثم فرض عليهم ما يشبه الجزية والمكوس، ثم بدأ في تأليبهم على بعضهم البعض، بل إنه كان يرسل قواته لأسر قيادات منهم وجلبها للقاهرة، فضلا عن التدخل المباشر لاختيار قيادات الفرقة، وهو ما فتح الباب تدريجيا للقضاء عليهم وعلى جرائمهم وإرهابهم بشكل يكاد يكون تاما، ولا يذكر التاريخ أن هذه الفرقة قامت لها قائمة مرة أخرى حتى إنها مع بداية الحكم العثماني لم يكن لها أي أثر سياسي أو إجرامي يذكر بعد أن طوعتهم مصر.
تشير كل هذه الحقائق التاريخية وبشكل لا يدع مجالا للشك إلى أن قوة الدولة المصرية وآيديولوجيتها كانت العامل الحاسم في هذا الأمر، فالدولة عندما تقوى وتستقيم سياستها فإن هذا يكون بداية الطريق الصحيح لانحسار الإرهاب، خاصة إذا ما تم تخليص البيئة الإقليمية من التدخلات الخارجية، كما أن نهاية الحشاشين تعود لتؤكد أن الدولة المركزية هي المنتصر النهائي، فالدولة هي الدولة بمؤسساتها وقوتها وجيشها، فالإرهاب في أغلبيته يظل يستند إلى جماعات وبؤر، وهنا تبقى الدولة وتزهق الجماعة، اللهم إلا لو كانت هناك أهداف خفية لكسر الدول.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.