أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

«مهندس صوت» يناير

منذ نعومة أظافري وتفتح أسماعي على نغمات الحياة، أعشق صوت المطربة نجاة. تمتاز حنجرة نجاة بطبيعة خاصة للغاية؛ فهي رقيقة جدا، ومرنة للغاية ما يمكنها من "ذبذبة" الكلمات لتخرج في القالب المعروف في لغة الموسيقى بـ"العُرَب".
ويشبه صوت نجاة زقزقة عصفور في فضاء الغابة، لكن تلك الحنجرة ليست بقوة حنجرة الأسد التي تسمح له بالزئير، ولا تمتلك طبقات واسعة تسمح لها بالتنقل بين الأصوات الشديدة العمق، أو تلك الحادة للغاية (ما يعرف بالقرار والجواب)، وهي أمور توجب أن تستمع إلى نجاة في محيط هادئ وخال من الأصوات الدخيلة حتى تستمتع به.
وخلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، غنت نجاة عددا من أروع أغنياتها قاطبة، من حيث اللحن والكلمة والأداء، لكن طبيعة تلك الفترة التي بزعت فيها صرعة الآلات الجديدة الإلكترونية في الموسيقى العربية على غرار الأورغ والغيتار؛ بل وحتى الطبلة، كلها عوامل ظلمت ذلك الأداء كثيرا.
وفي غياب مهندس للصوت يعمل على ضبط مستوى الصوت لكل آلة في تلك الحقبة، تاهت نغمات صوت نجاة كثيرا وسط طنين الآلات العالي، حتى أنني كنت لا أميز ما تقول وتضيع مني كثير من الكلمات التي لم أفقهها حتى استعنت في الألفية الجديدة بصديقي "غوغل" لاستوضح من خلاله ما كانت تشدو به محبوبتي. كنت أشعر خلال تلك الفترة أن أحدهم وضع في فمي قالبا من الشيكولاتة، بينما عيناي مغمضتان، وذاب القالب في فمي فور أن لمس لساني، قبل أن أتبين أو أميز شكله؛ هل كان مربعا أو مستديرا أو قمعي الشكل، عسى أن أنجح في معرفة طبيعته لابتاعه مجددا من أي مكان. كم هو شعور بائس.
شعرت كثيرا قبل نحو عشرين عاما بينما أستمع إلى أغنية لنجاة عبر شرائط الكاسيت (وهي الوسيلة الوحيدة للسماع في ذلك العصر بجانب الإذاعة قبل اختراع الاسطوانات المدمجة أو الآي بود وما شابه)، أنني اتمنى أن يبتكر أحدهم آلة الزمن لأعود بها إلى خشبة المسرح الذي تعتليه نجاة وفرقتها لأهشم الأورغ الإليكتروني على رأس العازف، كيف يخفض من صوته لكي استمتع بصوت العصفورة التي تغرد.
لم تكن نجاة وحدها التي ظلمت في تلك الفترة من مشكلة غياب مهندس الصوت، ولكنها ربما أحد أبرز المظلومين.
في الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني)، خرج آلاف من شباب مصر إلى الميادين، لا يجمع بينهم إلا آلام واحدة، من تهميش وامتهان وفقر وشعور عام بالضياع. لم يخرج هؤلاء بهدف معين في الأيام الأولى، فقط خرجوا ليطلقوا صرخة عالية معلنين عن أوجاعهم، فقط ليطلبوا كرامة في وطنهم.
وبعد أيام، وتحديدا في عصر يوم الجمعة 28 من يناير، انضم إلى هؤلاء آخرون، كان هؤلاء أصحاب مطالب وأغراض. وخلال تلك الأيام قتل المئات وأصيب آلاف. لكن "الخارجين الأوائل"، ذابوا وسط التكتلات صاحبة الغرض كما تذوب قطعة الشيكولاتة في الفم من دون أن تتبين شكلها، فقط تشعر بحلاوتها؛ ثم تذهب إلى ركن بعيد في الذاكرة يحتفظ بتلك النشوة العابرة.
لم يعرف أحد أسماء الأوائل، حيث طغى على المشهد مئات من "الراكبين" على جواد الثورة، فيما انزوى أصحاب الحق في ركن النسيان.. بعضهم مات، وبعضهم يئس، وبعضهم تاه في الزحام.
افتقدت ثورة يناير "مهندس الصوت"، سواء بشكل عفوي أو متعمد، والذي كان من شأنه أن يضبط مستوى أداء كل عنصر، فتاهت ملامح الحقيقة، ووصلنا إلى وقت تهاجم فيه المنابر كلها "أحداث يناير" لتتهمها أنها كانت مؤامرة على الوطن.
لا شك أن "الراكبين" امتطوا الثورة لاحقا، ولا شك أنه كان هناك انتهازيون ينتظرون تلك اللحظة، وأن هناك من كانوا يخططون لاختطاف الوطن.. لكن كل ذلك لا يعني أبدا أن الخارجين الأوائل كانوا متآمرين.
الآن، إذا سمح لي الحظ بأن أجد آلة الزمن، فسأترك معضلة نجاة لخبراء التقنيات ليحلوها، من أجل أن يعيدوا صياغة مستويات الصوت في أغنياتها المظلومة.. لكنني سأسعى لاستغلال الفرصة للعودة إلى صبيحة 25 يناير، لأرجوا الخارجين بأن يعيدوا التفكير؛ فإن تضحياتهم –بكل أسف- غالبا ما كانت بلا ثمن.