جوسلين إيليا
إعلامية وصحافية لبنانية عملت مقدمة تلفزيونية لعدة سنوات في لندن وبيروت، متخصصة في مجال السياحة.
TT

رسالة إلى المسافر في المقعد رقم «6»

بدأت الرحلة بأمان وسلام من مطار مايوركا في إسبانيا باتجاه مطار فرانكفورت، جميع المسافرين ألمان باستثنائي أنا، وكما كنت أتوقع كانت الطائرة مليئة بالعائلات والصغار، لأن الوجهة التي انطلقنا منها سياحية وصيفية.
وعلى عكس توقعاتي لم أنزعج من أصوات الصغار، ولم أتأفف من أي منهم، ولم يركلني أحدهم من المقعد الخلفي على مرأى من أهله وذويه، لا بل استمتعت بتلك الرحلة التي كنت فيها محاطة بالصغار الجالسين قربي وخلفي وأمامي، ومضت ساعتان وكأنهما دقائق معدودة، وكانت الرحلة تثقيفية أيضا، لأن جميع الأطفال كانوا يقرأون كتبا تتماشى مع أعمارهم، وتعلمت من جاري فيليكس، ابن العامين، نحو 10 كلمات بالألمانية، لأنه أصر على مشاركتي كتابه الذي تلونه رسومات جميلة وتعبيرية.
حطت الطائرة.. ودّعت فيليكس وأهله، وانطلقت في رحلة أخرى من المطار المذكور إلى بيروت، دون أن أعلم ما كان ينتظرني.
المدينة ألمانية والناقلة ألمانية، طاقم الطائرة من ألمانيا أيضا، أما الركاب فهم من منطقتنا، يسكنون في ألمانيا بالجسد فقط، لأن عقليتهم لا تزال قابعة في المكان الذي جاءوا منه. الانتماء مهم جد، ولا يجب التنكر لأصولنا، ولكن عندما يستضيفنا بلد أجنبي، أقل ما يمكن أن نفعله هو أن نكتسب خصال أهله الإيجابية والانضباط واحترام الغير.
جلسنا في الطائرة، غالبية المسافرين هم أصدقاء وأقارب، ولم تنقصنا إلا أغنية السيدة فيروز «ع هدير البوسطة». الرحلة أقلعت عند منتصف الليل، وهذا يعني أن المسافرين سينامون بعد تناول وجبة العشاء، ولكن هذا التوقع لم ينطبق على جاري المسافر في المقعد رقم «6 إي» الذي لم يتعب من الكلام والمحادثات العشوائية من مقعده مع راكب وأكثر في مؤخرة الطائرة، اضطررنا لسماع أحاديثه وتعرفنا على قصصه لدرجة أننا عرفنا ثمن تذكرته.. وكان المسافرون المساكين بمن فيهم أنا، على أمل أن يتعب ذلك المسافر وينام ليغفو لنا جفن نحن أيضا، ولسوء الحظ لم يسكت، وعندما انقطع المسافر في المقعد الخلفي عن الرد والمبادرة في القصف العشوائي للكلام، تنفسنا الصعداء، وقلت في قرارة نفسي: «الحمد لله سينام هذا المخلوق العجيب»، إلا أن تفاؤلي لم يطل، لأن الأخ بدأ بالدندنة والغناء، مقاطع مقطعة، لحنها مزعج، وصاحب أوتارها إزعاج أكثر. ولم تنته القصة هنا؛ إذ بعد العشاء بدأ الصغار يركضون في ممر الطائرة وكأنهم يلعبون كرة القدم على ملاعب «آرسنال»، ليتبين أنهم أبناء المسافر المزعج.
التفتُ حولي ورأيت امرأة هادئة كانت برفقة زوجها، همست لي: «يا رب ينام»، ولكن لم يستجب لها.
وأخيرا انتهت الرحلة، ونحن ننتظر تسلم الحقائب، اشتكت سيدة كانت تجلس خلفي في الطائرة من الإزعاج الذي عانينا منه، وفجأة اشترك أحدهم في الحديث قائلا: «يا له من مسافر مزعج»، التفت إليه لأجد أنه هو ذلك المسافر المزعج في المقعد رقم «6 إي».