نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

غزة.. بين البطولة والخلاصات السياسية

لو كانت البطولة هدفا بحد ذاته، لكان الفلسطينيون أصحاب الرقم القياسي، الذي يسجل في تاريخ صراعهم الطويل مع عدوهم، ولقد صاغ الفلسطينيون معادلة البطولة بفعل الفرق الشاسع في القوى والإمكانيات، الذي لم يجد الفلسطينيون سبيلا للتعايش معه سوى المعادل الرمزي لهذا الفارق وهو البطولة، وفي كل المواجهات الفلسطينية الإسرائيلية، منذ ما قبل عام 1948 وحتى آخر وقف لإطلاق النار بينهم وبين إسرائيل في حرب غزة، كان الفلسطينيون يواجهون محظورا خطرا يتجسد في النتائج السياسية التي كانت تسفر عنها حروبهم المتتالية.
والآن... فمن المفترض بداهة أن يقرأ الفلسطينيون تاريخهم جيدا، وأن يستخلصوا العبر من وقائعه الغنية، كي يتعاملوا مع بطولة حرب غزة، ليس بما يوازيها من زهو وإنما بما تستحقه من حسابات صحيحة تفضي إلى نتائج سياسية ملموسة.
إن وراء المعركة الراهنة على الجانب الفلسطيني، جهدا تحضيريا لا يصح تجاهله، ووراء القتال الشرس الذي قام به المقاومون، روح مشبعة بالتصميم على عدم الانكسار، والذي سجل ذلك اعترافات جنرالات وكتّاب ومواطنين عاديين في إسرائيل، إذن من حق صناع هذه الموقعة الكبرى، أن يُسجل لهم ما أنجزوا، إلا أن من حق فلسطين القضية والشعب أن يُبنى على هذا الإنجاز ما يحقق نتائج سياسية تُشعر أقرباء الأطفال الذين قُتلوا بأن دمهم حقق شيئا لقضيتهم، وأن الدمار المروع الذي أفقد مئات الآلاف أبسط مقومات حياتهم وهو الستر في شقة أو حتى كوخ صفيح، هذا الدمار سيكون مقدمة لبناء يتقدم من خلاله الفلسطينيون، نحو حريتهم واستقلالهم.
والبناء السياسي على ما تم حتى الآن ينبغي أن يكون هذه المرة أكثر مرونة وواقعية من كل المرات السابقة، وما أعنيه بالضبط أن يحدد الفلسطينيون موقفهم تحت سقف الإجماع الدولي حول حقوقهم، وأن يجدوا الصلة الموضوعية والصحية مع أشقائهم العرب الذين يملكون قدرات التأثير في المعادلة الإقليمية والدولية، وهنا تظهر بوضوح ثلاث دوائر ينبغي العمل في إطارها كي يستفيد الفلسطينيون مما حدث، أو كي لا يتحول ما جرى إلى مجرد بطولة ومذبحة.
الدائرة الأولى.. وهي الدائرة الفلسطينية، التي آن الأوان لأن تنتبه إلى نفسها وأن تضع الأسس القوية والدائمة لترتيب وترشيد وتفعيل علاقاتها الداخلية، بعيدا عن الانغماس في أجندات الآخرين التي عنوانها القضية الفلسطينية، ومضمونها المصالح الخاصة لأصحاب هذه الأجندات، وإذا كانت التحالفات القديمة قد أسفرت عن ولادة غزة تحت الأرض فإن ترشيد العلاقات منذ الآن ينبغي أن يخرج غزة إلى مكانها اللائق بها تحت الشمس، وهذا لن يكون إلا بوحدة اندماجية بين كافة مكونات العمل الوطني الفلسطيني في الإطار الجاهز لذلك وهو منظمة التحرير، وحين يندمج الجميع في الإطار بصدق واقتناع، فإن التمايزات السياسية والفكرية تجد حلا ديمقراطيا يقوي الحركة الوطنية الفلسطينية ولا يمزقها أو يشتتها.
الدائرة الثانية.. وهي بداهة الدائرة العربية التي كانت دائما معطلة عن أداء دور متصل ومنهجي وفعال بشأن القضية الفلسطينية، وبين يدي هذه الدائرة كنز سياسي تم إهماله بفعل الصد الإسرائيلي واللامبالاة الدولية، وأعني به المبادرة العربية للسلام، وحين أصف هذه المبادرة بالكنز، فلأنها حققت ولأول مرة في التاريخ تكاملا فلسطينيا عربيا إقليميا حولها من القدس إلى طهران، وبوسع العرب وخصوصاً الدول التي جنبت نفسها عصف الربيع المدمر، أن تعيد تبني هذه المبادرة وتقديمها للعالم كخلاصة لإجماع نادر.
أما الدائرة الثالثة وهي التي تحتاج إلى عمل مضاعف، وهي الدائرة الأميركية الأوروبية، هذه الدائرة التي احتكرت العمل في أمر التسوية الشرق أوسطية بدأت تضيق ذرعا بالسياسة الإسرائيلية المتمردة على كل المعادلات والاعتبارات التي تؤثر في عالم اليوم، صحيح أن الأمر لم يصل إلى حد الخصومة ولكن كرة الثلج التي تبدأ بحصوة صغيرة يمكن أن تكبر كثيرا لو وجدت من يدحرجها بكفاءة وصبر.
عندما نقول إن أي معركة تحفل ببطولات خارقة، قد تتحول إلى مأساة، لو لم تحقق تقدما سياسياً نحو الهدف الأساسي، فإننا بذلك ندق جرس إنذار يقودنا إلى تفادي المعادلة التي وقعنا بها عقودا من الزمن، تلك المعادلة التي شقها الأول بطولة خارقة وشقها الأخير خسارات سياسية فادحة.