كان من بين أحدث الوافدين للقاهرة هذه الأيام رجل أعمال ليبي في الستين من العمر يدعى عبد الله، لديه مشروعات تجارية ضخمة في طرابلس. وتوجه الرجل على الفور إلى مكتب العقارات الموجود في ضاحية التجمع الخامس في غرب العاصمة المصرية، بحثا عن فيلا تصلح للإقامة الطويلة له ولباقي أفراد أسرته. ويبدو أنه يئس من طول فترة النزاع والاقتتال في بلاده، ولذلك قرر الاستقرار في مصر، مثل كثير ممن سبقوه خلال الأسابيع الماضية من أثرياء ليبيين وسوريين وعراقيين أيضا.
وتسببت هذه النوعية من رجال الأعمال الهاربين من الاضطرابات في إشعال سوق عقارات الأثرياء بمصر التي تعاني من مصاعب اقتصادية، بما فيها قطاع العقارات الخاصة بالأغنياء. لكن المحاسب علي جمال الدين، المسؤول في مكتب عقارات التجمع الخامس يقول إن الوضع تغير، وإنه «بعد أن كانت مئات الفيلات الفخمة المنتشرة شرق القاهرة لا تجد مشترين، أصبح الحال يتحول للأفضل رويدا رويدا». ويزيد موضحا: حين جاء عبد الله لشراء فيلا تبلغ قيمتها نحو 10 ملايين دولار تقع في القاهرة الجديدة، غرب العاصمة، وجد رجل أعمال سوريا قد سبقه في التفاوض على امتلاكها، وما زال الأمر لم يحسم بعد.
ومن المعروف أن ملايين المواطنين الليبيين والسوريين نزحوا عن ديارهم خلال السنوات الثلاث الأخيرة هربا من الفوضى والاقتتال الداخلي، ولجأوا إلى الكثير من الدول، من بينها مصر التي انتقل للعيش فيها مئات الألوف من مدن سورية وليبية، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء من الطبقات المتوسطة، ممن أسهموا إلى حد ما في إنعاش البيع والتأجير للشقق المخصصة للشرائح المتوسطة أيضا، داخل المدن خاصة القاهرة والإسكندرية. أما ظاهرة الإقبال على الفيلات والمجمعات السكنية المغلقة، من جانب الليبيين والسوريين والعراقيين، فلم تبدأ إلا بعد أن أخذت الأمور في مصر تتجه نحو الاستقرار عقب نجاح المصريين، خلال النصف الأول من هذا العام، في وضع دستور وانتخاب رئيس للدولة.
ويضيف جمال الدين أنه في الوقت الحالي يمكن أن تقول: إنه أصبح يوجد تنافس على شراء فيلات من تلك التي لا تقل مساحتها عن ألفين أو ثلاثة آلاف أو حتى أربعة آلاف متر مربع، ومزودة بحدائق ومجهزة بالمرافق والتأمين وغيرها من المميزات التي تجتذب رجال أعمال يبدو أنهم يخشون الملاحقة من خصومهم في البلاد التي جاءوا منها، وبعضهم يقال: إنهم كانوا مسؤولين سابقين اختاروا مصر أخيرا للإقامة فيها.
وتبلغ مساحة واحدة من الفيلات المعروضة للبيع بنحو 9 ملايين دولار في شرق القاهرة، نحو 4500 متر، نصفها مبان والنصف الآخر حدائق وحمامات سباحة وملاعب. وتتكون الفيلا نفسها، ذات الحوائط العازلة للحرارة والصوت، من نحو عشر غرف نوم ومثلها حمامات، ومرأب يكفي لثماني سيارات، بالإضافة إلى شبكة خاصة بالمراقبة والتأمين والحراسة. ويقول جمال الدين إن هذا النوع من الفيلات يستهوي الطبقات العليا من الرجال الذين تبدو عليهم الأهمية، سواء ممن كانوا مسؤولين أو رجال أعمال في بلادهم، لكنه يضيف أنه توجد فيلات أخرى بمساحات وإمكانيات أقل، وتتراوح أسعار البيع بين مليون دولار إلى خمسة ملايين دولار، بينما يبلغ الإيجار الشهري لها، في المتوسط، نحو سبعة آلاف دولار.
واشترى ثري ليبي شاب، يدعى خالد، فيلا مجهزة بالفرش والخدمات على أطراف ضاحية مصر الجديدة منذ أسبوع تبلغ مساحتها 800 متر مربع بسعر يزيد قليلا عن مليوني دولار. وتتكون الفيلا من سبع غرف نوم وأربعة حمامات، وملحق بها حمام سباحة يقع قرب الشرفة الرئيسة إضافة لمرأب مغطى يتسع لخمس سيارات إلى جانب غرفة حراسة خاصة مزودة بنظام المراقبة التلفزيونية.
وكان خالد يعمل في مجال استيراد معدات الحفر والأوناش من ألمانيا إلى ليبيا، وكان لشركته فرعان في طرابلس وبنغازي، إلا أنه يقول إن أعماله تعثرت، منذ 2011 بسبب الاضطرابات المستعرة في بلده، وإنه بعد أن كان يأمل في استقرار الأوضاع، أدرك أن الصراع «مرشح للاستمرار». ويقول إنه أخطأ حين دعم سياسيين ليبراليين في انتخابات البرلمان الأخيرة، لأنه تلقى تهديدات بالقتل من جانب إسلاميين متشددين بعضهم خسر الانتخابات وبعضهم يحرم الانتخابات من الأساس.
وفي مدينة السادس من أكتوبر (تشرين الأول) يتفاوض رجل أعمال سوري في العقد الخامس من العمر، يدعى سيف، على استئجار فيلا، بينما مالكها المصري يحاول إغراءه بشرائها طيلة الأيام الماضية. وتبلغ مساحة الفيلا ألف متر مربع، بينما يبلغ سعرها 1.2 مليون دولار. وتقع الفيلا ضمن مجمع سكني فخم ومؤمن بشكل ممتاز ويعيش فيه سفراء أجانب. ويحيط بالفيلا، المبنية على الطراز العربي، سياج من النخيل. ويقول سيف إنه بصدد نقل نشاطه الاقتصادي، في مجال صناعة الحلويات، من سوريا إلى مصر، بعد أن تحولت سوريا إلى «مدن للأشباح».
وتمكنت مصر منذ الصيف الماضي من النجاة من تداعيات الاضطرابات السياسية الكبيرة التي ضربت المنطقة منذ مطلع عام 2011. وتسببت في سقوط أنظمة الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن، وأدت إلى فوضى عارمة واقتتال داخلي راح ضحيته الآلاف ونتج عنه تدمير مدن وخسائر اقتصادية بمليارات الدولارات، مثلما هو الحال في ليبيا وسوريا. كما أدت تلك الاضطرابات إلى هروب المئات من المسؤولين السابقين ورجال الأعمال، مثل الليبي عبد الله الذي كان في السابق يدير مع شركاء أجانب استثمارات تجارية في طرابلس الغرب تتعلق بالنفط والغاز تبلغ قيمتها ملايين الدولارات.
وكان قطاع العقارات في مصر، طوال العقدين الماضيين، أي قبل ثورة يناير 2011، يتنامى بشكل سريع أغرى الكثير من الشركات المصرية والعربية للتوسع في إقامة المنتجعات والمجمعات السكنية الفاخرة الخاصة بكبار الأثرياء في المدن الجديدة خاصة في مناطق الشروق والتجمع الخامس وغيرها، شرق العاصمة، وفي مدينة السادس من أكتوبر، غربا، والتي تتميز بوجود مجمعات كبيرة للتسوق والترفيه. لكن هذا القطاع الذي أنفقت عليه عدة شركات عقارية كبرى أموالا طائلة، أصيب بركود تزامن مع اندلاع «ثورة يناير» وما صحبها من فوضى أمنية وغموض سياسي يتعلق بالقوانين المنظمة لتملك الأراضي وبناء المنتجعات باهظة التكاليف حول القاهرة.
وقبل عشرين سنة كانت الميزة للعقارات في القاهرة تتعلق بقربها أو بعدها عن كورنيش النيل، كما كانت أكبر قيمة لعقار سكني على الكورنيش لا تزيد عن خمسة ملايين جنيه (الدولار يساوي نحو 7.15 جنيه)، كما يقول صبحي ناشد، صاحب مكتب عقارات في وسط العاصمة، مشيرا إلى قصص نسجتها في ذلك الوقت صحف وفضوليون عن شخصية مصرية اشترت شقة مطلة على النيل، بنحو مليون دولار، وكيف كان المبلغ في نظر العامة كبيرا، حيث جرى وقتها تداول المميزات في تلك الشقة من تجهيزات ومرافق وخدمات أمن ورفاهية.
ويقول ناشد إن بعض الشركات العقارية، من بينها شركات عربية، ما زالت تشتري المباني القديمة المطلة على النيل وتحولها إلى أبراج مثل البرج القائم حديثا قرب المركز التجاري الدولي، وأن سعر الشقة في هذا البرج، الذي ما زال تحت الإنشاء، لا يقل عن 1.5 مليون دولار، لكنه يضيف أن «رجال الأعمال الكبار والرجال المهمين الذين يأتون من بلادهم هربا من الظروف الصعبة التي تمر بها، يفضلون الابتعاد عن قلب المدينة والابتعاد عن سكن الشقق، والبحث عن الفيلات المحاطة بالأسوار والحراسات».
وتعامل ناشد، خلال الشهر الجاري، مع ثلاثة على الأقل من الأثرياء الليبيين، ممن كانوا يطمحون في تملك أو تأجير فيلات داخل منتجعات مغلقة ومؤمنة. ويضيف أن الدنيا تغيرت منذ بداية الألفية، مرتين، فيما يتعلق بعقارات الأثرياء. المرة الأولى حين بدأ الترويج لبناء المنتجعات الخاصة حول القاهرة، وأقبل عليها حينذاك كبار رجال الأعمال المصريين والعرب، والمرة الثانية حين أصيبت هذه السوق بالركود، خاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، بسبب الثورات والمشاكل السياسية. ويقول: «تشهد هذه السوق اليوم انتعاشة مرضية، بسبب توافد أثرياء من ليبيا وسوريا للإقامة عندنا.. في مصر».
اضطرابات المنطقة تلهب سوق عقارات الأثرياء في مصر
ليبي وسوري يتنافسان على امتلاك فيلا بالقاهرة قيمتها عشرة ملايين دولار
اضطرابات المنطقة تلهب سوق عقارات الأثرياء في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة