أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

رؤية «عين الطائر»

في علم الهندسة المعمارية، يوجد العديد من المنظورات الشهيرة، ومن بينها منظور "عين النملة" الذي يرى المشروع من مستو بصري منخفض، وتكمن أهميته الرئيسة في كشف العيوب الهندسية. كما يوجد منظور "عين الطائر"، وهو المنظور الذي يوضح الأبعاد بصورة أكبر، كما يصلح أكثر للمقارنات الهندسية.
وفي الدراسات السياسية والاستراتيجية، يستخدم التعبيران أيضا لدراسة الأوضاع. حيث يشير مفهوم عين النملة إلى الدراسات والمشاهدات من الأرض؛ وهي الدراسات الأكثر تمحيصا للأمور وتستخدم للبحث عن أسباب وعلاجات مشكلة معينة. في حين يختص عين الطائر بدراسة الأحوال والرؤى العامة، ومقارنة الأوضاع بين مجتمعين أو زمنين مختلفين، وهي الرؤية الأكثر شمولية التي تجمع في أحيان كثيرة من التفاصيل المتباينة، لكنها ترتبط في الشكل النهائي.
وكمواطن غاب عن أرض الواقع لمدة نحو ثلاث سنوات، مع استثناء زيارات قصيرة، خرجت خلال تلك الفترة رغم المتابعة اليومية للمتغيرات من معايشة النمط اللحظي للحياة في مصر، والتي تسفر في النهاية عن الانكباب غير المقصود على متابعة الحياة من منظور عين النملة، الذي تجبرك الظروف اليومية على الانغماس فيه حتى النخاع.
وأسفر ذلك الوضع عن رؤيتي لمصر بعين "الزائر" القريب من أهل البيت في ثلاث مناسبات، أولأها عند المغادرة في خريف عام 2011 بعد أشهر من ثورة 25 يناير (كانون الثاني) وخلع الرئيس الأسبق حسني مبارك، وثانيها في زيارة في خريف عام 2013 بعد أسابيع من ثورة 30 يونيو (حزيران) وعزل الرئيس الأسبق محمد مرسي، وآخرها حاليا.
في المناسبة الأولى، كان الوضع يتسم بكثير من الفوضى، كل القوى السياسية والاجتماعية "تتخبط" في تجربة كانت ربما الأولى من نوعها، حين سمحت الظروف للشعب بالتدخل لرسم ملامح مستقبلهم.
ويقول مراقبون وباحثون حول الوضع بعد 25 يناير، إن الشعب واجه موقفا جديدا عليه، حيث تطلب الأمر أن يقوم الشعب بنفسه باختيار طريقه، وذلك على خلاف المواقف السابقة في مصر الحديثة، التي حكمت فيها الدولة إما من أسرة ملكية، أو من قيادات تنتمي إلى المؤسسة العسكرية التي قامت بثورة 23 يوليو (تموز) عام 1952، من دون أن تكون للشعب رؤية حقيقية سوى الموافقة على ما هو مطروح من قبل حكامه.
ويرجح الخبراء أن هذا الموقف المفاجئ دونما استعداد مسبق أدى إلى اضراب عام، إذ أن اغلبية المصريين بمن فيهم طبقة القيادات الوسطى في الحياة السياسية أو الاجتماعية لم تكن على أهبة الاستعداد لهذا الموقف؛ ما أدى إلى صراعات جانبية وهامشية على غرار "معارك الديوك"، أسفرت عن ضعف القدرة العامة عن التوجه إلى الأمام واغتنام الفرصة.
أما عن المناسبة الثانية، فكان الأبرز فيها ربما هو غياب الشعور بالأمان وتفشي الانفلات في كل المجالات. ووصل الاستقطاب إلى ذروته، ووصلت القدرة على التفاهم إلى أدنى المستويات.
كنت أرى تظاهرات في الشارع، تسمع فيها هتافات وتلمح فيها أسلحة، وعلى الجانب المواجه ترى آخرين يواجهونها بنفس الآليات، لا تعلم من مع من، أو ماذا يريد البعض، أو لماذا يتجه البعض للتخريب المتعمد وكأنه انتقام من الآخرين. لم أحدد هنا من قام بالمظاهرة ومن ضدها، فالمشاهد حملت كل الاحتمالات الممكنة.
أما عن رؤيتي للمشهد حاليا، فالمقارنة تؤكد أن هناك تحسنا في مستويي الأمان والبعد عن التخبط. الشارع أكثر هدوءا وانسيابية. ورغم وجود بعض من المظاهرات، والتي مازالت تشهد أعمال عنف متبادل، إلا أنها أصبحت أقل كثافة وخسائرها أقل جسامة.
تخوفت مثل غيري من أن تسفر القرارات الأخيرة برفع الدعم عن المحروقات، والتي استتبعها بالتأكيد زيادة في أسعار السلع، عن تذمر واسع وربما ما هو أكثر.. إلا أن الرؤية على أرض الواقع أشارت إلى وجود تذمر بالفعل، لكنه محكوم جدا لدى المواطنين الذين يريد أغلبهم المضي قدما إلى المستقبل.
ربما لا يكون "كل" المصريين حاليا راضين عن أداء الحكومة أو الأوضاع بشكل عام، إلا أن الملاحظ هو أن السنوات الثلاث الماضية تركت أثرا لدى الغالبية، التي تقبل الآن أن تضحي أو تتنازل عن بعض الأمور، طامحة إلى غد أفضل. وربما دفع تحسن سريع في الأحوال الاقتصادية والاجتماعية إلى مزيد من التماسك والتعاون من أجل البناء.