بعد إحدى عشرة ساعة من المفاوضات الماراثونية المكثفة التي خيّم عليها شبح الفيتو الإيطالي واحتمال سقوط الحكومة الائتلافية في ألمانيا، توصّلت القمة الأوروبية إلى اتفاق وسط حول مجموعة من الإجراءات الهادفة إلى التخفيف من حدة التوتر المتصاعد منذ أسابيع حول ملف الهجرة. وقال رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك الذي ترأس المحادثات «اتفق زعماء دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين على نتائج القمة ومنها قضية الهجرة». كانت إيطاليا أعاقت في وقت سابق التوصل إلى أي اتفاق خلال القمة ما لم ينفذ الشركاء الأوروبيون مطالبها بشأن الهجرة. وبحث الزعماء خلال القمة عددا من القضايا الأخرى منها التجارة والأمن.
وتتضمن الإجراءات التي وافقت عليها كل الدول الأعضاء، إقامة مراكز داخل الاتحاد الأوروبي يُنقل إليها المهاجرون الذين يُنقذون في عرض البحر، للتفريق بين أولئك الذين يحقّ لهم طلب اللجوء السياسي ومن يُعرفون بالمهاجرين الاقتصاديين الذين يُعادون إلى بلدانهم، فيما يُوزّع طالبو اللجوء على الدول الأوروبية التي تتطوّع لاستقبالهم. ولكل بلد أوروبي أن يقرر طوعاً استضافة أحد هذه المراكز، مما يلغي نظام الحصص الإلزامية لتوزيع المهاجرين التي نصّ عليها اتفاق دبلن، ويرضي الدول التي ترفض استقبال أي لاجئ أو مهاجر غير شرعي.
وجاء في نص الاتفاق «أن المهاجرين الذين يُنقَذون في عرض البحر بموجب أحكام القانون الدولي، ينبغي أن تُقدَّم لهم العناية اللازمة عبر مجهود مشترك، لتوزيعهم على مراكز تُقام في البلدان الأعضاء، بشكل طوعي، حيث يخضعون لإجراءات سريعة وآمنة، بدعم من الاتحاد الأوروبي، للتمييز بين اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين».
وكانت المحاولة الجديّة الأولى للاقتراب من الاتفاق النهائي قد تقدّمت بها خمس دول متوسطية هي إيطاليا وفرنسا وإسبانيا واليونان ومالطا، قبيل منتصف الليل، عندما طرحت فكرة إقامة مراكز الاستقبال داخل الاتحاد الأوروبي للمهاجرين غير الشرعيين الذين يصلون إلى دول الأطراف التي تتعرّض للضغط أكثر من غيرها. لكن دول الشرق الأوروبي عارضت الاقتراح، رافضة مبدأ التوزيع على أساس الحصص الإلزامية. وبعد مشاورات جانبية مكثّفة، تقدمت فرنسا وإسبانيا باقتراح مشترك يحدد مهمة مراكز الاستقبال بالتمييز بين اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، وأن يتم توزيع الذين تُقبل طلباتهم بشكل طوعي على البلدان الأعضاء. وكان واضحا أن الاقتراح الفرنسي الإسباني المشترك يهدف إلى خفض الضغط على إيطاليا ومساعدة المستشارة الألمانية على الخروج من مأزق أزمتها مع وزير داخليتها. لكن المشكلة التي قد تجعل من هذا الاتفاق مجرّد إعلان للنوايا الحسنة، هي أن أيّاً من البلدان الأعضاء لم يعلن عن استعداده لاستقبال أحد هذه المراكز.
المناقشات في القمة بدأت حامية منذ الساعات الأولى بعد أن قدّمت المفوضية عرضاً يستند إلى بيانات وتقارير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تفيد بأن تدفق المهاجرين بلغ ذروته في خريف العام 2015 عندما زاد عددهم عن المليون، ليتراجع باطراد حتى هذه السنة حيث لم يزد عددهم عن 44 ألفا، أي بانخفاض نسبته 96 في المائة، مما يدل على نجاعة التدابير المشتركة المتخذة على الصعيد الأوروبي، ويلمّح إلى أن المشكلة هي سياسية في أساسها.
الفكرة الوحيدة التي توافقت حولها آراء القادة الأوروبيين في هذه القمة التي عاشت ساعات تحت وطأة التهديدات، هي مراكز الاستقبال التي يعتزم الاتحاد الأوروبي تمويلها خارج حدوده، لكي ينقل إليها المهاجرون الذين يُنقذون خلال عبورهم نحو الأراضي الأوروبية. وقد وافق الرؤساء الأوروبيون على تكليف المفوضية تفعيل هذه الفكرة التي ما زالت موضع تساؤلات كثيرة، ولا شيء مؤكد فيها سوى أن تلك المراكز ستكون مخصصة فقط لاستقبال المهاجرين الذين يتم إنقاذهم خارج المياه الإقليمية الأوروبية، فيما يُنقل أولئك الذين ينقذون داخل المياه الأوروبية إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. ويدعو نص الاتفاق المفوضية إلى التحرك سريعا للنظر في فكرة مراكز الاستقبال الإقليمية بالتعاون الوثيق مع البلدان ذات الصلة، ومع المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة. وانتقدت منظمة «برو أزول» الألمانية المعنية باللاجئين القرارات، وقال المدير التنفيذي للمنظمة جونتر بوركهارت أمس الجمعة: «هذه قمة اللاإنسانية... إغلاق أوروبا لأبوابها أمام المعذبين والمضطهدين غير إنساني» مضيفا أن الفرار ليس جريمة. وذكر بوركهارت أن «رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي افتقدوا لأي حس للتعاطف مع المضطهدين» مضيفا أنه أصبح لا يوجد داخل الاتحاد الأوروبي وخارجه «سوى معسكر انعدام الأمل».
ويعتزم الاتحاد تعزيز وكالة الرقابة على الحدود الأوروبية (فرونتكس) بحلول عام 2020.
وذكر بوركهارت أن الاتحاد الأوروبي ينشئ مناطق خارجة عن القانون، وقال: «ستحول هذه المعسكرات دون الحق في اللجوء وفحص أسبابه في إطار إجراءات قانونية».
وكانت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قد طرحت هذه الفكرة في بداية القمة. عندما أشارت إلى «إنزال المهاجرين في موانئ بلدان ثالثة، في شمال أفريقيا مثلا، لكن بالتعاون مع هذه البلدان». أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد شدد من ناحيته على «العمل داخل الحدود الأوروبية وخارجها لمعالجة مشكلة الهجرة، استنادا إلى مبدأ مزدوج قوامه المسؤولية والتضامن». لكن إيطاليا التي أطلقت شرارة هذه الأزمة مطلع هذا الشهر بعد تشكيل الحكومة الجديدة، أصرت منذ اللحظة الأولى على أنها «مستعدة لممارسة حق النقض، إذا أخفق الاتحاد الأوروبي في أن يقرن أقوال التضامن بالأفعال»، مدركة أن المستشارة الألمانية تفاوض تحت ضغط وجودي يتوقف عليه مصيرها السياسي.
ويستند مؤيدو فكرة مراكز الاستقبال الإقليمية في تفاؤلهم، إلى نجاح التجربة المماثلة بعد التوقيع على الاتفاق مع تركيا عام 2016، حيث تدّنى عدد المهاجرين الوافدين من تركيا إلى السواحل اليونانية، بعد إبلاغهم بأنهم سيُعادون إلى المرافئ التي انطلقوا منها. وقد أدى ذلك الاتفاق أيضا إلى وقف نشاط المافيات التي كانت تتاجر بالمهاجرين للوصول إلى البلدان الأوروبية عبر البوابة التركية.
وكان رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك قد حذّر الزعماء الأوروبيين في بداية الجولة الأخيرة من المفاوضات قبيل طلوع الفجر قائلا «قد يعتقد البعض أني متشدد في اقتراحي، لكن صدّقوني بأننا إذا لم نتوصل إلى اتفاق حول هذا الاقتراح، فإن الاقتراحات التي ستعقبه ستكون أكثر تشددا، من جهات متشددة فعلا». هذا التحذير الذي كان على كل شفة ولسان تقريبا في قاعة المجلس الأوروبي، بدا خافتا أمام التصريحات التي ودّع بها رئيس الحكومة المجري وبطل المعسكر المتطرف فيكتور أوربان القمة قائلا «سنعمل بما يطالب به المواطنون في بلداننا: منع دخول المزيد من المهاجرين إلى الاتحاد الأوروبي، وطرد الموجودين بصورة غير شرعية».
لكن أشاد الرئيس الفرنسي بالاتفاق، قائلا إن هذا الاتفاق هو «ثمرة عمل مشترك، والتعاون الأوروبي هو الذي انتصر على خيار عدم الاتفاق وعلى قرارات قومية ما كانت لتُعطي ثمارا أو تستمر».
> ذكرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة «يونيسيف» أن مراكز النظر في طلبات المهاجرين، المتوقعة من قبل الاتحاد الأوروبي، يتعين تشغيلها كمنشآت مفتوحة، لحماية الأطفال. وقالت المتحدثة باسم اليونيسيف، سارة كرو لوكالة الأنباء الألمانية، في جنيف بعد أن اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي على إقامة ما تسمى بـ«مراكز خاضعة للرقابة» على الأراضي الأوروبية، حيث سيتم احتجاز المهاجرين، فيما يتم النظر في طلباتهم للجوء، قالت: «نشعر بالقلق إزاء إمكانية اعتقال الأطفال».
ومن المقرر أن تحدد المراكز، التي ستستضيفها دول الاتحاد الأوروبي، على أساس طوعي، المهاجرين الذين سيتم إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية. وقالت كرو إن منظمتها لديها أيضا تساؤلات بشأن مراكز الإنزال (مراكز إيواء مؤقتة) التي يتوقعها الاتحاد الأوروبي، في مناطق خارج التكتل، مثل شمال أفريقيا.