في عام 1978 صعدت الطائرة لأول مرة في رحلة طويلة من العراق إلى المغرب.
كنت هارباً من البعث إلى أي بلد يمنحني حق الإقامة القصيرة والعمل فيه، ريثما يثور الشعب أو الجيش ويحصل انقلاب، وهو كما عرفت حلم يقظة لشاب هارب!
ودون أن أدري كنت أفكر بإمكانية سقوط الطائرة في الصحراء، دون أن يصيب الأذى ركابها بالطبع، فتحصل لنا مغامرات لطيفة بعد أن نلتقي في الصحراء بالأمير الصغير!
كنت سأقول له إنني أعرفه منذ زمن طويل، وأعرف أنه من الكوكب 612، وسأتولى تقديمه وتعريفه للركاب الذين لا يعرفونه... وعلى هذا المنوال سأواصل معه أحاديث أنطوان سانت إكزوبري الذي أخبرنا بقصته!
كان حلم يقظة لشاب يصدّق بما يقرأه في الكتب وما زال يصدّق!
---
كتاب «الأمير الصغير» كان من أكثر الكتب التي صدّقت بها، وكان كتاباً محيراً للملايين من البشر منذ صدوره وحتى اليوم.
فهو كما يُفترض كتاب أطفال، كما في نية كاتبه، لكنه أصبح كتاب كبار جداً في المغامرة والفلسفة والأسئلة العميقة، وهو ترجم إلى كل لغات العالم، بل إن بعض الدول قامت بوضعه في مناهج المدارس!
وذات مرة التقيت بصديق عراقي - إيراني يحب القراءة فاقترحت عليه أن يقرأ كتاب «الأمير الصغير» فقال لي إن هذا الكتاب كان ضمن المنهاج المدرسي في إيران أيام الشاه!
تصور!
---
وفي أول أسبوع لي في المغرب تعمّق إحساسي بالغربة، وكنت أبحث عما يشبه تفاصيل روحي وحيرتي.
ووقفت يوماً أمام مكتبة فرنسية في الرباط... وشعرت فجأة بأن يداً تلوح لي كي أدخل.
دخلت ووقفت أمامه... وكان ذلك كتاباً اسمه «الأمير الصغير»!
لا أعرف الفرنسية، لكنني عرفت الكتاب من غلافه... ففي كل لغات العالم صدر الكتاب بالغلاف الذي رسمه وصممه المؤلف.
اشتريت الكتاب وعدت مسرعاً إلى غرفتي و«قرأته» من خلال ذاكرتي ومن خلال رسوم المؤلف الداخلية وليس من خلال الكلمات!
شعرت حين عثرت عليه واشتريته بأنني أقل وحشة وغربة.
---
أزعم بهذه المناسبة، وخارج معايير النقد، أن بعض الكتب لها روح!
بعض الكتب لها روح فاسدة وبعضها روح منعشة وبعضها تسكنك للأبد ما أن تمر عليها!
كتاب «الأمير الصغير» بالنسبة لي، كان يملك هذه الروح التي تسكن وتسيطر على قارئها. ولعل تلك الروح تعود إلى أنه كُتب بروح طفل لم يعجبه تفكير الكبار يوماً.
لأوضح هذه الفكرة أشير إلى اختصار بليغ قدمه بابلو بيكاسو. فهو قال يوماً إنه في الثامنة من العمر كان يحاول تقليد رافاييل ومايكل أنجلو، لكنه عندما بلغ الخمسين كان يحاول تقليد الأطفال!
وأميري الذي سيطر عليّ عرف أن امتلاك نظرة الطفل للأشياء كفيل بكشفها وفضحها حتى لو اتفق العالم كله على تغطيتها... ولأني كبير أتحدث إلى كبار، سأوغل في الإيضاح وأذكّر بثياب الإمبراطور، وهي قصة درسناها في الابتدائية في العهد الملكي في العراق قبل أن يقوموا بتدريسنا العقائد والشعارات.
خلاصة تلك القصة، أن محتالين أوهموا الإمبراطور أنهم سيخيطون له ثياباً لم يلبسها أحد من قبل.
وبسبب كثرة المتزلفين خاطوا للإمبراطور ثياباً من وهم... وعندما جاء وقت الاستعراض ظهر الإمبراطور بثيابه الجديدة التي أثنت عليها الحاشية وكل الجمهور الخائف... لكن طفلاً ضحك وصرخ:
الإمبراطور عارٍ!
وفجأة وجد الجميع أنفسهم أمام حقيقة ذلك العري بعد أن أزالت عين الطفل الوهم عنه. ولطالما خطر ببالي أن ذلك الطفل لم يكن سوى أميري الصغير!
---
غادر أميري الصغير كوكبه الذي لم يكن فيه سوى ثلاثة براكين صغيرة ينظفها كل يوم ويجلس ليشاهد الغروب أكثر من مرة؛ فكوكبه صغير جداً، فيزداد حزناً وحيرة، خصوصاً بشأن زهرته الغريبة... وبلغ من حزنه أنه شاهد الغروب أكثر من أربعين مرة في يوم واحد! فقد كان في الحب، والحب مثير عظيم للقلق والحزن أيضاً!
ويأخذ في التجوال في الكواكب حتى يصل إلى الأرض بعد أن رأى في كل كوكب مخلوقاً يدفعه إلى الرحيل بسبب تفاهته أو بسبب واقعيته الفجة أحياناً... فهذا يحسب النجوم ويضيفها إلى رصيده كي يكون الأغنى ولو نظرياً... وذاك يشرب باستمرار وعندما يسأله لم تشرب؟ يقول له اشرب لأنسى عاري! وما هو عارك؟ عاري أنني أشرب!
كل المخلوقات التي مر بها أميرنا الصغير كانت مشغولة بما ينشغل به رجال اليوم: الحصول على مال أكثر، الحصول على سلطة أكبر، الحصول على نجاح أو أي شيء أكثر... وهم في ذلك المسعى ينسون ويخنقون الطفل في داخلهم... يخنقون أميرهم الصغير!
لا يكاد أحد ينجو من هذا الفخ مع الأسف الشديد.
---
لكن محور القضية هنا أن زهرة ما تنتظره ولا ينبغي أن ينساها.
زهرة تجيد الدلال والإغراء والتشكي... وهي فريدة من نوعها لأنها زهرته.
لقد استطاعت تلك الزهرة أن تدجّنه وسمحت له أن يدجّنها... وعندما تعلق برف طيور مرت بكوكبه كان يريد أن ينعتق منها ومن الحب، ومن أشياء لا نعرفها. وعندما يصل إلى الأرض يلتقي ثعلباً في حقل مليء بسنابل القمح، فيقول له الثعلب:
«دجّني» أرجوك! ويعلمه كيف يكون التدجين، وهو شيء أشبه برمي الشباك والقلب أمام امرأة، فيقول له الأمير: لكن الفراق سيأتي وسيكون مؤلماً، فماذا استفدت؟ فيرد الثعلب:
استفدت أن السنابل الذهبية ستذكرني بشعرك!
بمثل هذا المنطق الطفولي والعميق استمتع مئات الملايين من القراء في العالم... ولعل جملة في هذا التجوال تغريك بقراءة «الأمير الصغير» فتكتشف أنك أمير فعلاً!
- كاتب عراقي