هناك حكاية طريفة لجحا يوم اصطحب ابنه معه إلى السوق فركب هو الحمار وسار ابنه لجانبه ومر بقوم عاتبوا الأب على قساوته على صغيره. فنزل عن الحمار ووضع ابنه عليه ومر بقوم آخرين عاتبوا الابن لقسوته على أبيه «هو مرتاح ووالده العجوز يمشي». اختار جحا أن يركب وابنه الحمار معا فما كان من قوم آخرين إلا أن انتقدوهما: «انظروا إلى قسوة الإنسان على الحيوان المسكين». قال جحا لابنه: «انزل يا بني سنمشي لجانب الحمار لعلنا نسلم من كلام الناس. لكن ما إن فعلا حتى مرا بقوم أخذوا يهزأون بهما: «انظروا، جحا وابنه يسيران بينما كانا يستطيعا ركوب الحمار».
المفاد، كما هو واضح، أنك لا تستطيع أن تسعد كل المنتقدين. كل يريد الفعل المحدد على النحو الذي يراه هو صحيح. وكم من مرة كتب البعض معيبا على مهرجان ما أنه استعراض مسرف، وحين شد المهرجان الحزام واستغنى عن البذخ كتب البعض نفسه منتقدا غياب الاستعراض والبذخ الذي كان انتقدهما سابقا.
حال من هذا صاحب أخيرا اختيار مهرجان دبي السينمائي الدولي (من السادس حتى السادس عشر من هذا الشهر) في مناسبته العاشرة، فيلم «عمر» للافتتاح. ذلك أن فريقا من الإعلاميين تعجب اختيار فيلم عربي وتساءل منتقدا غياب «الفيلم الأكبر» للافتتاح. والمقصود بالفيلم الأكبر هو الفيلم الأميركي الذي طالما قام مهرجان دبي باختيار واحد مما هو متوفر لعرضه في الافتتاحات السابقة وسط منتقدين يعدون أن افتتاح المهرجان بفيلم أميركي ما هو إلا استجابة لمطالب شركات توزيع، أو أنه انعكاس لسياسة تشجيع العروض الأجنبية وتجنب العربية.
* سؤال صعب
* لكن ألا يستطيع المهرجان أن يكون حرا في اختياره؟
أليست المهرجانات في الأساس هي ممارسات ناتجة عن جهود ورؤى ومعايير يختارها أهل الخبرة وقد يسود بعضها كتقليد مستمر ويتعرض بعضها الآخر للتغيير؟
معظم المنتقدين، في عرف مسؤولين في مهرجان «دبي»، لم يروا فيلم «عمر» بعد. كيف لهم ذلك ولم يسبق عرضه في أي مهرجان أو تظاهرة أو صالة عربية؟ ربما التقطه البعض حين جرى عرضه في إطار مهرجان «كان» السينمائي لكن هؤلاء قلـة وغالبيتهم وقف مع الفيلم وأعجب به. أقل من هؤلاء من ذهب إلى مهرجانات «كارلوفي فاري» و«هامبورغ» و«نيويورك» و«لندن» التي عرضت هذا الفيلم.
من ناحية أخرى، فإن «عمر» هو فيلم جيد بامتياز فعلي. مهرجان دبي أحسن اختياره كعمل سينمائي له أكثر من جانب يستحق من أجله أن يطلق الدورة الجديدة. هو فيلم عودة من تمويل إماراتي لمخرج شق طريقه بنجاح قبل سنوات عندما قدم «الجنة الآن»، ثم هو فيلم فلسطيني القلب والهوى في وقت تسعى فيه بعض الدول العربية للتذكير بالمأساة المستمرة لشعب تحت الاحتلال أو مهدد باحتلال جديد ووشيك.
كما الحال في «الجنة الآن»، فيلم هاني أبو أسعد الذي وصل إلى ترشيحات الأوسكار الرسمية في عداد «أفضل فيلم أجنبي»، فإن الموضوع هنا هو تردد فلسطيني في لعب الدور الذي يفرض عليه. في الفيلم السابق كان على بطله أن يقوم بتفجير انتحاري لصالح الفلسطينيين (لكن ليس لصالح فلسطين) لكنه يمتنع. هنا عليه أن يقوم بالتجسس على الفلسطينيين لكنه يمتنع. الجانب العاطفي يلعب دورا كبيرا يؤدي إلى النهاية المتفجرة التي يخلص إليها الفيلم.
السؤال الصعب الذي ورد في الفيلم السابق حول حق الحياة وتفضيل ذلك على الموت يتبدى كذلك في الفيلم الجديد. بطله عمر (آدم بكري) هو واحد من ثلاثة أفراد يخططون لقتل جندي إسرائيلي. في الوقت ذاته يحب ناديا (ليم لـباني) شقيقة صديقه المقرب طارق (إياد حوراني). الصديق الثالث هو أمجد (سامر بشارات) الذي لا يبدي حبه لناديا أيضا.
يقدم الثلاثة على تنفيذ العملية ومطلق النار هو أمجد. في قرى فلسطين المحتلـة تستطيع أن تتظاهر وسيتعرض لك الأمن الإسرائيلي بقسوة. أن تظهر حنقك وغضبك حيال المعاملة غير الإنسانية وسيهدونك منها المزيد، لكن أن تقتل جنديا إسرائيليا فهذه هي الجريمة التي لن يغفر لها الإسرائيليون وسوف يلاحقونك للقبر كما يقول له ضابط الاستخبارات الذي يجيد الحديث باللكنة الفلسطينية لدرجة أنه يوهم عمر بأنه فلسطيني مثله (وليد زعيتر الذي هو منتج الفيلم أيضا).
يبدأ الفيلم بالجدار المنتصب عاليا ومهارة عمر في تسلـقه للطرف الثاني من الأرض، ولو أن رصاص الجنود سيتطاير فوق رأسه ما سيعيده سريعا إلى حيث أتى. بعد ذلك هناك الدورية التي توقفه وتطلب منه الوقوف على حجر ويديه فوق رأسه. أفراد الدورية يتسامرون وهو لا يستطيع أن يتحمل. ينزل عن الحجر ويعود فيبادره جندي بضربه بكعب بندقيته: «الآن اذهب وقف على قدم واحدة فوق ذلك الحجر».
* وضع دقيق
* هنا يكون المخرج أبو أسعد نجح في شحن الموقف عاطفيا وجلب الجمهور لصف بطله. شحن يعتمد على المشاعر الجاهزة بلا ريب لكن كل ذلك سيتعمق حين يمضي الفيلم في سرد ما يلاقيه عمر في سعيه للوصول لمن يحب. فبعد قتل الجنود يمسك به أفراد الجيش ويسلمونه للمحققين الذين يعذبونه ثم يستقبله الضابط رامي الذي يخيره: السجن أو العمالة. يطلق سراحه على أساس شهر من التجربة عليه فيها المساعدة في تسليم القاتل. الضابط يعتقد أن طارق هو الفاعل، لكن أمجد هو من أطلق النار. ووضع عمر دقيق حتى حيال صاحبيه وحيال حبيبته. هذا الوضع الدقيق يبلور - لجانب سقوطه ضحية الاستخبارات - وضعا متعدد الجوانب وأكثر تعقيدا. ومهارة المخرج أبو أسعد هي أنه عرف كيف يتعامل مع كل الجوانب من دون خطابات أو سياسات مباشرة ويمنحها جميعا صوتها المألوف لكي تصف به مصالحها المتناقضة.
فيلم هاني أبو أسعد تنفيذ سينمائي وجد بين النقاد الغربيين ترحيبا كبيرا يستحقه. حين مقارنته بفيلم إسرائيلي عنوانه «بيت لحم» أخرجه يوفال أدلر، والذي تحدث عن استخدام الموساد عملاء وجواسيس عرب للعمل تحت إمرتهم، فإن ما نحصده هو أن «عمر» يصور الفلسطيني ضحية لبطش مخابرات الجيش الإسرائيلي، بينما يصور «بيت لحم» العملاء الفلسطينيين كمتعاونين وأن الجيش، والسلطة بأسرها، إنما يقومون بما يقومون به من زاوية الدفاع عن الوطن لذا فهم معفون من المسؤولية.
في مقابل أن «عمر» ينقل الواقع كما هو، يختار «بيت لحم» أن يكون انتقائيا. وفي مقابل قيام الفيلم الفلسطيني بعرض كيف يهان الفلسطيني ولا يستطيع أن يفعل شيئا حيال ذلك، يعرض الفيلم الإسرائيلي رباطة جأش القوات الإسرائيلية التي لا تطلق النار على المتظاهرين! لكن «عمر» لا يفقد صوابه ولا يتخلـى عن رزانته. هو ليس هنا لخطاب حماسي بل لعرض واقع ومهرجان دبي، بتاريخه الحافل، اختار أن يعرض هذا الواقع بدوره في فترة يحاول البعض فيها أن تنسى.
* خمسة أفلام تنتظر الاكتشاف في دبي
* هناك الكثير من الأفلام التي تستحق المشاهدة في دورة مهرجان دبي المقبل، لكن الخمسة التالية تأتي من مخرجين عرفوا بأعمالهم المتميزة: «فتاة المصنع» لمحمد خان (مصر)، «سر الوسادة» لجيلالي فرحاتي (المغرب)، «هم الكلاب» لهشام لعسري (المغرب)، «ستيريو فلسطين» لرشيد مشهراوي (فلسطين) و«سلم إلى دمشق» لمحمد ملص (سوريا).
ء