في الـ14 من الشهر الماضي، وقبل ساعات من بدء مهرجان «كان» الحافل، أقدم مخرج شاب على الانتحار. وقف عند رصيف محطـة سولنا سنترم في مدينة استوكهولم بانتظار وصول القطار كسواه في ساعة مسائية مزدحمة. أول ما وصل القطار السريع رمى نفسه أمامه. المخرج هو مالك بنجلول.
قبل سنة وشهرين تقريبا، كان هذا الشاب في محفل مختلف. لقد وقف على المنصـة سنة 2013 ليتسلم أوسكار أفضل فيلم تسجيلي عنوانه «البحث عن شوغرمان» Searching for Suger Man حول مغنٍّ من مدينة دترويت الأميركية ظهر في الستينات واختفى قبل نهاية ذلك العقد، حتى ظـن أنه مات، لولا أن المخرج اكتشف وجوده في العقد الماضي من هذا القرن، حيـا يرزق في جنوب أفريقيا حيث لا يزال يغني. قرر بنجلول البحث عنه وتحقيق هذا الفيلم حول حياته وتأثيره السابق على المشهد السياسي في بلاده، عندما كانت تلك راضخة لسياسة التمييز العنصري، ثم ما بعد زوال ذلك النظام.
الأغنية الرئيسة التي يتولـى الفيلم تقديمها بعزف وصوت سيكستو رودريغيز تبدأ بالقول: «شوغرمان.. ألا تستعجل؟ لأني متعب من هذا المشهد». إنها أغنية حزينة كما الفيلم. تبدو كلماتها موجـهة إلى ملاك الموت لتعكس لا حالة المغني فقط، بل حال المخرج الذي فاجأ الوسط السينمائي بانتحاره. كتبها سيكستو في الستينات وفي باله تاجر مخدرات (شوغرمان) لكن بنجلول كان مدمنا فقط على الحياة.. هذا إلى أن قرر بأن يتركها وراءه ولأسباب تبقى غامضة.
* دوافع
* ما أصاب مالك بنجلول، تؤكد التحقيقات، هو شعور بالكآبة تسلل إلى نفسه وعايشه لفترة أشهر قبل أن يزداد وطأة ويقوده في ذلك اليوم إلى فعلته. عالم النفس الدكتور الأميركي أليكس ليكرمان يكتب في مجلة «سايكولوجي توداي» حول الكآبة واضعا إياه في المرتبة الأولى بين ستة أسباب تدعو البعض للانتحار. يقول: «الألم الناتج عن الحياة يصبح فعلا لا يطاق بالنسبة للمنتحين. تتسلل الكآبة إلى التفكير فإذا به ينقاد إلى البال ويشل التفكير»، ويضيف: «اليأس هو ببساطة طبيعة مرضية. ومن يعانون من اليأس عادة ما يعانونه بصمت. يخططون للانتحار من دون معرفة أحد».
وهذا ما حدث مع محيط بنجلول من الأقارب والأصدقاء. لقد لاحظوا أن الرجل بات منطويا وكئيبا ولو أن أحدهم لم يتوقع له أن ينتحر تبعا لذلك. عندما انتشر الخبر بعد ساعات قليلة، حل الوجوم مكان المفاجأة وفي اليوم التالي انطلقت التساؤلات حول لماذا يقرر سينمائي في مطلع عهده بالنجاح، وعلى رأس سلـم الشهرة الذي صعده بلا مقدمات تذكر، على الانتحار؟ ما السبب في أن الكآبة، عوض البهجة، والإحباط عوض النشاط واليأس بدل السعي حط عليه وغيـر من منهجه حياته وأذاب الآمال التي لا بد ارتسمت له عندما نطق المقدم باسمه دون سواه، فانتفض من مكانه وسار إلى المنصـة وعلى وجهه ابتسامة طفولية كبيرة؟
الصحافي سكوت جونسون حاول معرفة الجواب على ذلك. غاص، في مقال كتبه لإحدى المجلات الأميركية، في حياة المخرج المولود في السويد وبحث فيما قد تكون الدوافع والأسباب والنتيجة موضوع غلاف لمجلة «ذا هوليوود ريبورتر» المرموقة وصفحات من الملامح إلى تكون بمجموعها صورة داكنة لشخص وصفه بعض معارفه بالقول: «أقل الأشخاص احتمالا لأن ينهي حياته على هذا النحو».
ما نعرفه بعيدا عن ذلك التحقيق، هو أن المخرج الذي هو أول مخرج عربي الأصل ينال الأوسكار فعلا، ولد في بلدة يستاد في جنوب السويد بتاريخ 14 سبتمبر (أيلول) سنة 1977. والده اسمه حسين بنجلول، وكان طبيبا جزائريا هاجر إلى السويد وتزوج من امرأة سويدية تعمل في ترجمة الكتب. هو ثاني أولاد العائلة إذ يكبره شقيقه جوهر بعامين. وهو باشر عمله ممثلا في حلقات تلفزيونية سنة 1990 عنوانها «إيبا وديدرك»، لكنه بعد ذلك انشغل في تحقيق أفلام صغيرة وقصيرة لعروض تلفزيونية مختلفة. كما شغل نفسه بالانخراط في برنامج دراسي لشؤون «الميديا» في جامعة كالمار. ووجد عملا في مؤسسة تصاميم وإنتاج محلي اسمها «كوبرا» شغله لعدد من السنوات التي سبقت تحقيق فيلمه الأوسكاري الذي كان أول فيلم يخرجه.
* القاع.. القمـة.. القاع
* مشروع هذا الفيلم ورد سنة 2006. بنجلول كان حط في مدينة كايب تاون في جنوب أفريقيا زائرا، وذلك ضمن برنامج رحلات أراد منها أن تلهمه موضوعا يخرجه فيلما. هناك التقى برجل يملك محل أسطوانات اسمه ستيفن سيغرمان، وهذا قص عليه حكاية مغنٍّ أميركي اسمه سيسكتو رودريغيز مشهور في جنوب أفريقيا ومجهول في باقي العالم. حين بعث بنجلول بفكرة تحقيق فيلم قصير لشركة «كوبرا»، ردت عليه تلك بأن المادة قد تستحق فيلما تسجيليا طويلا. لكن المشكلة، وكما يعبـر الفيلم بصدق، كانت في أن رودريغيز، المعروف بـ«شوغرمان»، كان شخصا متواريا عن الأنظار. يعيش في انطواء تام. بحث بنجلول عنه، ذاك الذي تحول إلى أكثر من عنوان فيلم، دام سنوات قليلة، وبعدها سنوات أخرى لصنع الفيلم حول ذلك الرجل الذي كان لا ينشد الشهرة، حتى ولو كانت على مقربة منه. ما حدث بعد ذلك هو ما قاد للتغيير. هذا الشاب الذي اندفع مؤمنا بعمله، وانتقل به إلى مهرجان «صندانس» في العام الماضي ودخل به مسابقة الأوسكار، وجد نفسه (كما يرجح التحقيق) كما لو سدد الضربة التي لا يمكن تجاوزها.
هل يكون هذا النجاح نهاية المطاف عوض أن يكون باكورة الطريق؟ هل يعقل أن يصل مخرج إلى القمـة ولا يرى منها سوى النزول؟ لماذا لم يوظـفها وينتقل منها إلى قمـة أخرى أو (على الأقل) يواصل العمل مستغلا النجاح الذي حققه؟ هل السبب في انحداره بعد ذلك يعود إلى أن هذا النجاح كان مبكرا جدا؟
الأخبار التي وردت مباشرة بعد فوزه بالأوسكار هي أنه جالس بعض المنتجين، الذين تدارسوا وإياه مشاريع محددة اقترحوها عليه. بعد أن أمضى المخرج أشهرا في الولايات المتحدة عاد إلى استوكهولم، وإلى أصدقائه ومحيطه. وحين سألته المنتجة كارين كلينتبيرغ عما إذا كان على موعد ما لتحقيق فيلم أميركي، بدا غير واثق. سريعا من بعد بدا وقد فقد الثقة بكاملها. أخذ سلوكه بالتغير بتدرج غير ملحوظ، ثم ملحوظا إلى أن وقع تحت ركام تلك الكآبة لأسابيع قبل إقدامه على الانتحار.
سيبقى السؤال قائما حول أسباب محددة أكثر دفعت مخرجا واعدا قفز إلى النجاح بسرعة يتمناها عشرات ألوف المخرجين إلى طي صفحة حياته. كيف يمكن لأحد أن يقفز من الأوسكار إلى الانتحار؟
طبيبة نفسية اسمها دونا روكول، تحدثت عن هذا الشأن بقولها: «الشهرة مثل حادث سيارة من حيث وقع التجربة» ورأت بعد دراسة شملت عددا من الممثلين والمخرجين الذين تأثروا بنجاحهم على نحو أو آخر أنه بالنسبة لشخص «عاش حياة طبيعية من قبل، فإن النجاح المفاجئ في عالم من الأضواء قد يكون أكثر مما يستطيع تحمـله».
ربما هذا ينطبق على مالك بنجلول، وربما لا. لا أحد يستطيع أن يتأكد، فقد حمل سره معه.
* ليس الأول
* مالك بنجلول ليس الأول الذي انتحر بعد فوزه بالأوسكار، أو حلـق في الترشيحات الرسمية له: الممثل تشارلز بوير (الذي رشح لأربع أوسكارات) انتحر سنة 1978 حزنا على رحيل زوجته. الممثل البريطاني جورج ساندرز نال أوسكار أفضل ممثل مساند عن «كل شيء عن حواء» سنة 1950، وانتحر سنة 1972 تاركا رسالة قصيرة عبر فيها عن ملله من الدنيا. ومن بين آخرين، أطلق الممثل رتشارد فارنسوورث النار على نفسه سنة 2000 وبعد أشهر قليلة من ترشيحه لأوسكار أفضل ممثل عن دوره البطولي في فيلم ديفيد لينش «قصـة سترايت».