رابين كان يمكن أن ينقذ إسرائيل من نفسها

كاتب سيرته يقول إن قتلته الفعليين لم يُجلبوا للعدالة بعد

رابين كان يمكن أن ينقذ إسرائيل من نفسها
TT

رابين كان يمكن أن ينقذ إسرائيل من نفسها

رابين كان يمكن أن ينقذ إسرائيل من نفسها

تخيم لحظة اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين (1922 – 1995)، على يد متطرف يميني خلال مهرجان للسلام في تل أبيب، على صورة الرجل في المخيال الجمعي، حتى كادت تطغى على إنجازاته وحضوره (المختلف) كرجل دولة من الطراز الأول في المشهد السياسي الإسرائيلي المتخم بكثير الشخصيات المنتفخة والمتهورة وقصيرة النظر، بل والفاسدة. هذا ما يذهب إليه إتمار رابينوفيتش في كتابه الجديد «إسحق رابين: الجندي.. القائد.. رجل الدولة)، الصادر حديثاً باللغة الإنجليزية عن مطبعة جامعة ييل في الولايات المتحدة.
رابينوفيتش الدبلوماسي والأستاذ المتخصص بالشؤون السورية في جامعة تل أبيب كان من المثقفين القريبين من رابين، وقد استدعاه لتولي إدارة المفاوضات مع الإدارة السورية بداية عقد التسعينات، ولذا فهو من القلائل الذين قد يكون بمقدورهم كتابة سيرة واقعية عن حياة رابين، وإنجازاته في الحرب والسياسة، وزمانه. وبالفعل، فإن رابينوفيتش نجح بوضع نص متين، رسم من خلاله صورة متكاملة عن رابين، عبر مراحل مهنته المتعاقبة، دون السقوط ضحية سهلة لفخ النهاية التراجيدية لحياته، التي تحولت في المجال العام إلى ما يشبه ثقباً أسود يمتص كل شيء آخر عنه.
لم يمتلك رابين شخصية كارزمية، لكنه بالتأكيد «ربّان محترفٌ وماهرٌ تثق بأنه سيصل بالسفينة إلى بر الأمان، مهما كانت الأنواء»، كما وصفه أحد الروائيين الإسرائيليين. وهو إن اشتهر بكونه من الحمائم في السياسة، فقد كان صقراً في الحرب، وعرف عربياً بأنه أحد أبطال التطهير العرقي عام 1948، وبسياسة كسر أطراف الأطفال الفلسطينيين لقمع الانتفاضة الفلسطينية 1987. وعلى الرغم من أنه ربما كان أكثر رؤساء الوزارة في إسرائيل استقلالاً، فإنه لم يدّع يوماً مكانة المُنظّر الاستراتيجي البارع، واعتمد دائماً في قراراته على نصح مجموعة من الخبراء التقنيين، لا السياسيين الثرثارين. ولم تمنعه شخصيته الانزوائية عن أن يكون القائد الذي يمد يده إلى أعدائه في العلن، وأن يكون «النجم» التاريخي لاتفاق السلام مع منظمة التحرير الفلسطينية، كما دخلت مصافحته لياسر عرفات كرمز لمرحلة جديدة في تاريخ الشرق الأوسط المعاصر.
معالم سيرة رابينوفيتش عن رابين تتقاطع في مراحلها المتعاقبة لتقدّم نزوعه إلى الاستقلال وقوة الشكيمة والمباشرة كأهم جوانب شخصيته. فقد كان يعتبر أن رفيقه موشي ديّان «شديد التهوّر»، ولم يحب ثرثرته، وكثيراً ما انتقد طريقته المتحذلقة في التعامل مع الآخرين. وقد رفض الخضوع لهيمنة بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، على الشأن السياسي في الدولة العبرية، فانتهى بدلاً من الحصول على ترقيات مستحقة إلى أن أبعد في مهمة أكاديمية في إحدى كليات الضباط البريطانية. وقد وصف منافسه في حزب العمال الإسرائيلي شيمعون بيريز بأنه «مخادع لا يمل ولا يتعب»، وتجرأ على مواجهة نادرة مع اللوبي اليهودي الأميركي، عندما حاول الضغط عليه.
ولم يتمسك رابين بكرسي السلطة، كما زعماء إسرائيل الآخرين الذين كما لو مستهم لعنة الأجواء الديكتاتورية والحكم المستديم في الشرق الأوسط، فاستقال من رئاسة الوزراء عام 1977، عندما تبين له أن لزوجته حساباً في بنك أجنبي. وهو قبل ذلك بعام، أعد خطاب استقالة قبل أن يرسل قواته الخاصة إلى مطار عنتيبي لتحرير الطائرة المخطوفة، حال فشلت المهمة.
وعين رابين رئيساً لهيئة الأركان الإسرائيلية عام 1964، وقاد حرب إسرائيل في 1967 إلى ما عد نصراً عسكرياً حاسماً للدولة العبرية، لكنه في لحظة التتويج بطلاً لإسرائيل كان قلقاً على ما قد يعنيه ذلك النصر بالنسبة لمستقبل إسرائيل في قلب عالم عربي معادٍ ومهزوم، ومع مليونين من الفلسطينيين الذين تحولوا بعد تلك الحرب إلى ما يشبه قنبلة ديمغرافية موقوتة تهدد وجود التجربة الصهيونية برمتها.
وعين رابين فيما بعد سفيراً لإسرائيل في واشنطن، لكن تجربته مع أبا إيبان، وزير الخارجيّة الإسرائيلي وقتها، لم تكن مثاليّة، رغم نجاحاته الدبلوماسيّة الكثيرة. وقد تجاوزته رئيسة الوزراء غولدا مائير في ترقياتها بسبب موقفه من حركة الاستيطان داخل الأراضي العربية المحتلة، التي كان يراها سرطاناً في قلب المجتمع الإسرائيلي.
والتحق رابين بحزب العمال الإسرائيلي، الذي كان في تلك المرحلة أحد الحزبين الكبيرين في السياسة الإسرائيليّة، وصعد إلى قيادة الحزب بعد الفشل المتكرر لشيمعون بيريز في الانتخابات العامة، ليفوز من فوره بمنصب رئاسة الوزراء بانتخابات 1992.
يقول رابينوفيتش إن رابين استدعاه عند استلامه مهام الرئاسة لتقييم إمكان التفاوض مع الجانب السوري بداية، وقبل الانتهاء إلى التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، وعرض على الأميركيين إمكانية التخلي نظرياً عن مرتفعات الجولان السورية المحتلة مقابل اتفاق سلام مع سوريا، رغم أنه يعلم أن حزبه لن يسانده في ذلك المسعى، وأن أغلبية مستوطني الجولان كانوا من ناخبيه. لكن الأميركيين، وفق رابينوفيتش، لم ينجحوا في الاستفادة من تلك الإمكانية في إقناع دمشق بالدخول في مفاوضات جادة تفتح الباب نحو توقيع معاهدة سلام دائمة بين الطرفين. وبدا السوريون وقتها، كما يقول المؤلف، «عنيدين ومعنيين بالمواقف المعلنة أكثر من سعيهم للوصول إلى تسوية». وهكذا، لم يُترك لرابين سوى المسار الفلسطيني لتحقيق اختراق، وهو ما توج لاحقاً باتفاق أوسلو، والمصافحة التاريخيّة مع عرفات أمام الرئيس الأميركي بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض، 13 سبتمبر (أيلول) 1993.
ويأتي الجزء الأخطر من الكتاب بتغطيته لعملية الاغتيال التي أودت بحياة رابين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 على يد متطرف يميني إسرائيلي. ويقول رابينوفيتش إن القتلة الفعليين لم يتم جلبهم للعدالة، رغم القبض على «المعتوه» الذي أطلق الرصاص، ويضيف أن تغييب رابين لم يكن ليحصل لولا تآمر تيار يميني واسع ضد جهود السلام التي كان يبذلها، لا عن ضعف منه ولكن لإنقاذ مستقبل إسرائيل، وضمان ديمومتها على المدى البعيد. وهو يشكك في إمكان تنفيذ عملية من هذا النوع ضد رئيس وزراء الدولة العبرية الأشهر عالمياً في تنظيم حماية حديدية لقياداتها. وكان رابين حينها ضحية مناخ كراهية مرتفع النبرة من قبل اليمين الإسرائيلي المتطرف، لقي قبولاً من قطاعات واسعة بين الإسرائيليين الذين اعتبروه قد قدم تنازلات من أراض مقدسة عند «الشعب» اليهودي، ولا شك أن تغييبه يفسر على نحو كبير انعطاف المزاج الإسرائيلي العام بشدة نحو اليمين والتشنج.
كتاب رابينوفيتش عن هذا السياسي الإسرائيلي المختلف الطراز يأتي في مرحلة حرجة من تاريخ المنطقة، وفي وقت لا تبدو فيه القيادة الإسرائيليّة الحاليّة المشلولة بتهم الفساد والمحسوبيات والتمسك بالسلطة بقادرة على طرح الأسئلة الأخلاقيّة والاستراتيجية اللازمة بشأن المسار التاريخي للدولة العبريّة، وإلى أين تتجه - ناهيك عن تقديم الإجابات عن تلك الأسئلة؛ إنّه انعدام تام في الخيال السياسي، وأفق مغلق، ولا أحد في إسرائيل اليوم لينقذها من نفسها، فقد قتلت آخر رئيس وزراء لها كان يفكر بهذا الأمر.


مقالات ذات صلة

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)
ثقافة وفنون «حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

«حجر النرد»... حاكماً على التاريخ في الرواية

قد يفاجأ القارئ الاعتيادي الذي يقرأ هذا النص السردي الموسوم بـ«وجوه من حجر النرد»، الصادر عام 2024، كونه لا يمت بصلة لفن الرواية الحديثة

فاضل ثامر
ثقافة وفنون أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

أبطال في قبضة واقع مأساوي وأحلام كابوسية

في مجموعته القصصية «العاقرات يُنجبن أحياناً»، يُجري الكاتب المصري أحمد إيمان زكريا مفاوضات ضمنية بين المُمكن والمستحيل بما يُشبه لعبة الشدّ والجذب

منى أبو النصر (القاهرة)
ثقافة وفنون «ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«ذهب أجسادهن»... قصائد ترصد العالم من منظور أنثوي شفيف

في ديوانها الرابع «ذهبُ أجسادهن» الصادر عن دار «كتب» ببيروت، تسعى الشاعرة المغربية عائشة بلحاج إلى رصد العالم من منظور أنثوي شفيف

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق أجمل ما يحدُث هو غير المُتوقَّع (مواقع التواصل)

من «لم أَبِع كتاباً» إلى «الأكثر مبيعاً»

أكّدت كاتبة بريطانية طموحة أنّ رؤية روايتها تُصبح من أكثر الكتب مبيعاً بعدما انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي كان ذلك أمراً «مثيراً جداً».

«الشرق الأوسط» (لندن)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.