مهما كانت الاختلافات بين المواقف المعلنة للدول المتخاصمة، فإن الدبلوماسيين في مبنى الأمم المتحدة يعملون معا كل يوم. فتتطور صداقات حذرة وخصومات ودودة، كما تتشكل عداوات أحيانا، وتلعب العلاقات الشخصية أحيانا دورا في تقرير الشؤون الرسمية، في مجلس الأمن الدولي. يقول دبلوماسي - طلب عدم الكشف عن هويته -لوكالة الصحافة الفرنسية: «تتم الأمور على المستوى الشخصي. فمن دون الثقة لن نصل إلى أي شيء... على المستوى الخاص فإن العلاقات أقل مأساوية مما تظهر عليه في العلن». يوضح الدبلوماسي أنه «في أي مفاوضات، المفتاح يكمن في العلاقات الشخصية».
تعتبر نيكي هايلي، سفيرة واشنطن في مجلس الأمن والحاكمة السابقة لولاية ساوث كارولاينا، السياسية الوحيدة في المجلس الذي يعج بالدبلوماسيين المخضرمين. والعام الماضي حققت انقلابا دبلوماسيا مثيرا للإعجاب عندما استطاعت الحصول على موافقة الصين وروسيا على قرار بالإجماع لفرض عقوبات على كوريا الشمالية. وتعتبر القضايا التي تطرح أمام مجلس الأمن الدولي من بين الأخطر التي يمكن أن يواجهها أي جهاز لصنع القرار يتعامل مع مسائل تمت إلى الحرب والسلم والحياة والموت، ما يدفع مختلف الأطراف داخل هذه الهيئة إلى استخدام أي تكتيك يعتبرون أنه يدعم موقفهم.
وخلال الأسبوع الماضي على سبيل المثال، اتحد مجلس الأمن الدولي لتأييد وقف إطلاق النار في الحرب السورية التي لا تنتهي، إلا أنه أخفق في الاتفاق على توجيه توبيخ لإيران. فقد أرادت الولايات المتحدة استهداف إيران بسبب تدخلها المفترض في النزاع في اليمن، ولكن روسيا تدخلت ومنعت ذلك. وفي كل حالة كانت أبعاد المعركة معروفة، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يعارضون التدخلات الروسية والإيرانية في الحربين الإقليميتين.
إذن لماذا كانت النتائج الدبلوماسية مختلفة؟
هايلي كانت الاثنين في هندوراس وتسلم زميل لها مقعد بلادها، عندما تحركت روسيا لوقف جهود إدانة إيران. وأحيانا يتم التوصل إلى توافق من خلال التلاعب بالإجراءات.
فالعام الماضي امتنعت الصين عن إدانة جارتها ميانمار، ولكنها سمحت لرئيس مجلس الأمن بإصدار بيان رئاسي. ولكن دبلوماسيين كانوا قد اقترحوا في البداية إصدار القرار قبل أن يعودوا إلى اقتراح إصدار البيان، بشكل يجعل الصين تبدو وكأنها حصلت على تنازل.
ونظريا فإن الحصول على بيان سياسي ليس أسهل من الاتفاق على إصدار قرار، لأن أي عضو من أعضاء المجلس الـ15 يستطيع الاعتراض على النص.
ويقول جميع الدبلوماسيين الذين يعقدون اجتماعات يومية لا تنتهي في البرج الزجاجي العملاق على خليج «تيرتل باي» في نيويورك، إنهم يسعون للتوصل إلى توافق. لكنهم في الحقيقة إنما يعملون على ضمان أن يعكس قرار المجلس مصلحة بلادهم القومية.
وكما قال أحد الدبلوماسيين، من المهم السماح للخصم بـ«حفظ ماء الوجه». وفي المفاوضات الطويلة حول القضايا المعقدة مثل العنف في سوريا، فإن الجانب الرابح هو في الغالب الجانب الذي يحتفظ بهدوئه لأطول فترة. وقال أحد المفاوضين لوكالة الصحافة الفرنسية: «عليك احترام الجانب الآخر عندما يكشف الخطوط الحمراء التي لن يتخطاها»، فيما قال آخر «ذلك أمر صعب على الأعصاب». ولكن المحادثات تبدأ قبل التصويت، ويتصل معظم السفراء مع عواصمهم للمشورة قبل أن يصوتوا بالموافقة أو الاعتراض أو يمتنعوا عن التصويت. وتتمتع هايلي بأكثر حرية شخصية للمناورة، نظرا لأنها عضو في إدارة الرئيس دونالد ترمب بمنصب حكومي. ولكنها في الوقت ذاته من أقل دبلوماسيين خبرة في هذا المبنى الذي يشهد حوارات مستمرة في الممرات وغرف المؤتمر والرسائل النصية.
وتوجد غرفة مؤتمرات مخصصة للدول الخمس الدائمة العضوية في الأمم المتحدة وهي بريطانيا والصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة، بينما خصصت غرفة أخرى للدول العشر التي لا تملك عضوية دائمة في المجلس. وعندما تطرح أي قضية للنقاش، يلتقي الخبراء من مختلف الدول لتحديد النطاق الدبلوماسي. وبعد ذلك يتولى «منسقون» من كل بعثة دولية رسم حدود النقاش، وإلا فإن السفراء أو نوابهم هم من يمسكون بالزمام.
ويتم توزيع الأدوار. فتتولى الدول رئاسة المجلس دورياً، ويتولى طرف متنفذ صياغة مسودات القرارات، رغم أن جميع الأعضاء يصوتون على القرار في النهاية. فبالنسبة للحرب في سوريا، تولت الكويت والسويد القيادة. أما بالنسبة للنصوص الخاصة باليمن أو ميانمار، تلعب بريطانيا الدور الأكبر. وفي بعض الأحيان عندما لا يكون من الممكن التوصل إلى توافق، يمكن للدولة أن تغير دورها أو تعززه. فعلى سبيل المثال، في المناقشات الأخيرة حول سوريا، أصبحت فرنسا «ميسرا»، ودعيت الصين إلى اجتماعات مجموعات صغيرة. ولم تشارك هايلي في المناقشات حتى اللحظات الأخيرة، لأنها كانت في رحلة إلى شيكاغو، حسب دبلوماسيين. بدوره صرح سفير روسيا فاسيلي نيبيزيا لوكالة الصحافة الفرنسية، بأنه شكر سفير فرنسا فرنسوا ديلاتري برسالة نصية للعبه دورا محوريا في وقف إطلاق النار. وكذلك فإن الحركات المسرحية تؤتي ثمارها.
في 22 فبراير (شباط) ظهر السفراء العشرة للدول غير دائمة العضوية في المجلس جنبا إلى جنب أمام عدسات الصحافيين، للإعراب عن قلقهم المشترك من مماطلة روسيا. وبعد يومين كان العالم يتساءل ما إذا كانت روسيا ستوافق على الهدنة في سوريا. وانتقلت كاميرات تلفزيون الأمم المتحدة فجأة إلى هايلي وديلاتري وهما يصلان بهدوء إلى قاعة مجلس الأمن. وقال دبلوماسي: «لقد كنا على وشك الإخفاق»، مضيفا أن تحدي القدر والضغط على روسيا للتصويت كان «حركة نادرة». ولكن هذه الحركة نجحت. فقد اجتمع الأعضاء الآخرون وصوتوا.
التوازن ما بين الدبلوماسية وحفظ ماء الوجه في مجلس الأمن
التوازن ما بين الدبلوماسية وحفظ ماء الوجه في مجلس الأمن
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة